خالد عكاشة
خلال النصف الأخير من العام 2020، شهد الوجود الإخوانى فى القارة الأوروبية الذى ظل مسكوتاً عنه لعقود حزمة من المتغيرات، أعلاها صوتاً جاء من باريس، التى تحدثت بخطاب واضح عبَّر عن انزعاجها من حجم التغلغل لتنظيم الإخوان المسلمين الدولى داخل مفاصل المجتمع الفرنسى للحد الذى وصفه الرئيس ماكرون باعتباره مهدداً حقيقياً لقيم الجمهورية الفرنسية. وربما دفع هذا المتغير إلى فتح الباب أمام إعادة تقييم للوجود الإخوانى فى عديد من دول الاتحاد الأوروبى، وممن هم خارج الاتحاد. لذلك شهدت الأشهر الأخيرة من العام المنصرم كثيراً من الأوراق والتقارير البحثية التى بدأت تدق نواقيس الخطر حول طبيعة المكون الإخوانى وأنشطته التى بدت فى أغلبها ليست فوق مستوى الشبهات.
أحدث هذه التقارير صدر عن مشروع مشترك بين مركز جلوبسيك (GLOBSEC) الذى يقع فى سلوفاكيا، ومشروع مكافحة التطرف (CEP) الأشهر أوروبياً فى هذا المجال. أهمية التقرير أنه يضىء منطقة ظلت معتمة لسنوات، رغم أن مواقعها الجغرافية قريبة الصلة بالمكون الأوروبى بل وتقع فى القلب منه، فهو يتناول أنشطة جماعة الإخوان وفروعها فى كل من مقدونيا الشمالية والبوسنة والهرسك. يقدم التقرير أشكال ومدى التقدم الذى أحرزه تيار الإسلام السياسى فى بلدين أوروبيين، اعتبرهما الفريق البحثى الذى عمل عليه يمثلان نموذجاً متكرراً فى دول أخرى، لكن فى كل الأحوال تظل منطقة البلقان تتمتع بميزة وأوضاع استثنائية فى مجمل معادلات التأثير الأوروبية، فيما تشكله من أهمية بالنسبة إلى تيار الإسلام السياسى الذى يعتبرها إحدى مناطقه التاريخية التى تستلزم الدأب الذى قد يصل لحد القتال من أجل تثبيت أقدامه فيها وتأمين مصالح عناصره والمنتمين إلى التيار بوجه عام.
فيما يخص البوسنة والهرسك، دخل الإسلام إليها لأول مرة فى القرن الخامس عشر بعد أن استولى العثمانيون على القسطنطينية، وما أعقبها من اجتياح تركى سريع لمنطقة البلقان لتعتبر البوسنة ولاية رسمياً فى العام 1463. وظلت على هذه الوضعية إلى أن جرى ضمها إلى مملكة الصرب والكروات والسلوفينيين، فيما أعيدت تسميتها «يوغوسلافيا» منذ 1929 لتحكم تحت هذا الشكل، إلى أن انهار هذا الاتحاد واستقلت الدول الأعضاء فيه عام 1991. أسوأ مظاهر هذا التفكك دار على أرض البوسنة فى الحرب التى وقعت ما بين عامَى 1992 و1995، وما صاحبها من عمليات قتل جماعى وتشريد واسعة مثَّلت فرصة مثالية للإسلامويين كى يشدوا الرحال إليها، ويقدموا الدعم إلى حكومة الرئيس البوسنى «على عزت بيجوفيتش». وقد عزز تجنيس الجهاديين الأجانب أثناء الحرب وبعدها، فضلاً عن دخول وتوسع الجمعيات الخيرية الإسلامية لإعادة بناء البلاد، ترسيخ تيار متطرف ظل يتنامى فى البوسنة، حيث شكل المنتمون لجماعة «الإخوان» وعناصر «الإيرانيين» المكون الأبرز لهذا التيار.
التقرير المشار إليه ذكر أن نفوذ الإخوان المسلمين فى البوسنة قديم ويعود لفترة التأسيس، فقد كان عزت بيجوفيتش، أول رئيس للبوسنة المستقلة، عضواً فى منظمة «الشبان المسلمين»، وهى منظمة أُسست على غرار جماعة الإخوان المسلمين عندما تم إنشاؤها فى البوسنة عام 1939. المثير أن هناك واقعة منسية ذكرها التقرير تخص فترة أربعينات القرن الماضى، لها دلالة هامة فيما تمثله من تشابه مع أحداث جرت فى بلداننا العربية فى ذات التوقيت، فقد اعتقد معظم اليوغوسلاف أن منظمة «الشبان المسلمين» قد تفككت فى فترة الأربعينيات، بعد أن حوكم معظم قادتها بتهمة التعاون مع النازيين، غير أن الجماعة بقيت وعملت تحت الأرض بجد لكسب الأتباع والنفوذ، وإنشاء شبكات تمتد إلى ما وراء يوغوسلافيا. إحدى أهم أذرع تلك الشبكات تكشَّف أنه قام بنسج التواصل ما بين الجماعة وجمهورية إيران الإسلامية الجديدة فى ذلك الوقت من أوائل الثمانينات، وهو الذى لفت انتباه الحكومة اليوغوسلافية وأدى إلى صدور قرار باعتقال عزت بيجوفيتش وغيره من قادة المنظمة.
ظل بيجوفيتش فى السجن إلى أن بدأ الحكم الشيوعى فى الانهيار، حيث أُفرج عنه فى العام 1990 ليعود بنشر إعلانه الإسلامى ويخوض حرب الاستقلال والسيطرة على السلطة، لكن ظل المراقبون فى البوسنة يعتبرون أطروحته الأيديولوجية وثيقة الصلة لحد التطابق مع المنهج الإخوانى الدولى، مما أثار مساحة كبيرة من الجدل العام، خاصة مع بدء سيطرة جماعة الإخوان المسلمين فى البوسنة على المناصب العليا. كما يوثق التقرير الدلائل التى تربط الشخصيات البارزة فى البوسنة والهرسك، مثل الدكتور مصطفى سيريتش، مفتى البوسنة السابق، بجماعة الإخوان المسلمين وقيادتها، فالدكتور سيريتش عضو فى «المجلس الأوروبى للفتوى والبحوث» المرتبط عضوياً بالتنظيم الدولى للإخوان المسلمين، إلى جانب يوسف القرضاوى وغيره من الشخصيات البارزة فى جماعة الإخوان. وخارج المؤسسات الرسمية يأتى التأثير الإخوانى الأبرز متمثلاً فى «جمعية الثقافة والتعليم والرياضة» المعروفة بـ(AKOS)، التى لها صلة وثيقة بـ«اتحاد المنظمات الإسلامية فى أوروبا» (FIOS)، وهى منظمة إخوانية مقرها العاصمة البلجيكية «بروكسل». التقرير أورد أن المتابعة الأمنية الأوروبية للموقع الإلكترونى لجمعية الثقافة والتعليم البوسنية أوضحت أنه يحظى بآلاف الزيارات يومياً من داخل البوسنة وخارجها، حيث يُعد بوابة نشطة لجلب الأشخاص إلى تيارات الإسلام السياسى بوجه عام، وإلى صفوف الإخوان فى حال توافر أفرع للجماعة فى بلدان الزائرين للموقع الإلكترونى.
هذا التقرير الأوروبى أورد واقعة تخص مصر فى طيات حديثه عن الصراع الداخلى الذى تموج به الساحة البوسنية، فقد استقبل السيد «بكير»، ابن عزت بيجوفيتش وخليفته، وفداً من الإخوان المسلمين المصريين فى قصر الرئاسة، ونشرت الصحف حينها صورة لبكير عزت بيجوفيتش عليها رمز «رابعة»، وهى إشارة معروفة عن جماعة الإخوان المسلمين. وتسبَّب ذلك فى عاصفة سياسية فى البوسنة، مما اضطر «بكير» إلى الادعاء بأنه لا يعرف أن الوفد ينتمى لجماعة الإخوان المسلمين!.. هذا عن البوسنة ونموذجها، ونظل فى استكمال عرض هذا التقرير الهام الأسبوع القادم بمشيئة الله.
نقلا عن الوطن