بقلم : كمال زاخر
التقيته على صفحات مجلة مدارس الأحد فى غضون عام 1992، كاتب يوقع مقالاته بثلاثة حروف (ر ـ ب ـ م) تحتشد سطوره بالمراجع التاريخية الموثقة، تتصدرها قوانين الكنيسة، عرفت بعدها أن هذه الحروف تشير إلى الراهب باسيليوس المقارى، وكان اسمه قبل الرهبنة يسرى لبيب، كلماته تسكنها الجرأة والمواجهة، لا يفارقها حلمه الأثير والذى شكل ملامح حياته، ودفعه لأن يترك وظيفته كمحاسب بعد تخرجه فى كلية التجارة، ليخطو خطواته الأولى فى طريق التكريس، مع نفر من اقرانه، يخايلهم نفس الحلم.
كانت الشرارة التى اشعلت جذوة حراكهم المنتظم صدور كتاب "حياة الصلاة" باكورة كتابات الأب متى المسكين، يتواصلون معه، يراسلونه ويطرحون عليه توجههم، ويسألونه عن مصادر ما ورد من اقوال وتعاليم الآباء على تنوعهم بكتابه، فيعرفون الطريق الى مجموعة كتب آباء ما قبل نيقية وآباء نيقية وآباء ما بعد نيقية،Nicene and Post-Nicene Fathers & Ante-Nicene Fathers، عكفوا على قراءتها بنهم وعمق، وما أن يأتى عام 1958 حتى يتفقوا مع ابيهم الروحى على تأسيس "بيت التكريس" فى حدائق القبة بالقاهرة، وبعد عام ينتقلون إلى ضاحية حلوان، فى واحدة من البنايات المتسعة، وهى واحدة من قصور الخديوى توفيق وكان مخصصاً لبناته الأميرات، لتنطلق رحلة التكريس، وينضم اليهم العديد من الشباب إيذاناً بتدشين مرحلة جديدة فى الخدمة التى تجمع بين الروحانية الأرثوذكسية والمنهج الأكاديمى والتفرغ الكامل، ويقترب عدد من طلبوا الإنضمام إلى مائة شاب، الأمر الذى أزعج جهات عديدة داخل الكنيسة وخارجها.
تحت ضغط الحصار يتفرق ساكنى بيت التكريس، بعضهم يعود ادراجه إلى حياته قبل التكريس، وبعضهم يطرق ابواب الدير، فيما يبقى نفر قليل منهم متمسكاً بمواصلة طريق التكريس خارج اسوار الرهبنة. يلتفون حول الدكتور نصحى عبد الشهيد، الذى ينأى بمجموعته عن المصادمات والصراعات، ويكرس جهده فى احياء تراث الآباء الفكرى اللاهوتى، وتظل المسارات مفتوحة مع الأب متى المسكين، ومع المراكز اللاهوتية بالكنائس الارثوذكسية الأخرى، وتتوالى اصدارات بيت التكريس ومركز دراسات الآباء فى سعى اعادة التواصل مع زخم الفكر الأرثوذكسى من منابعه.
كان يسرى لبيب مسكوناً بالكنيسة، عرف طريقه للكتابة والاشتباك مع قضاياها مبكراً، يقوده قلمه الى صفحات مجلة مدارس الأحد حين كان الاستاذ نظير جيد مديراً لتحريرها، ثم رئيساً لتحريرها، وقد ابدى تقديره لما يكتبه هذا الشاب الواعد منذ العام 1951، وأفسح له مساحة فى تلك المجلة، ولم تتخط سنى عمره وقتها السابعة عشرة، حتى يشق رئيس التحرير طريقه للرهبنة، 1954، ليصير الراهب انطونيوس السريانى، فيما يعمق الشاب يسرى لبيب علاقته بالأب متى المسكين، حاملاً قلمه وافكاره ليطرحها على صفحات مجلة مرقس ذات الصلة بدير أنبا مقار ويرأس تحريرها الدكتور رؤوف جرجس، وبعد سنوات قليلة يتولى الشاب يسرى إدارة تحريرها.
اللافت أن المقام انتهى بكلاهما إلى رحاب الدير، يترهب الدكتور رؤوف، فى زمن اقامة الأب متى بمحمية الريان بالفيوم وينتقل معه الى دير انبا مقار، بإسم الراهب يوحنا المقارى، وبعد سنوات وتحديداً فى 1973 يلحقه المحاسب يسرى لبيب فى الرهبنة بإسم الراهب باسيليوس المقارى، وتبقى مواقعهم فى ادارة ورئاسة تحرير مجلس مرقس.
كان يؤمن أن الإصلاح فى المطلق يبدأ فكراً، والكنيسة تخضع لنفس القاعدة، لذا لم يتوقف عن اقتحام ومناقشة قضاياها الشائكة والملتبسة، والمزمنة، عبر بوابة الكتابة بالتحليل وطرح الحلول، وتشهد على ذلك كتاباته فى مجلة مدارس الأحد فى اصدارها الأول، ومجلة مرقس، ثم مجدداً مجلة مدارس الأحد فى التسعينيات من القرن العشرين، والتى صارت صداعاً يؤرق القيادة الكنسية، لينتهى الأمر بسحب القيادة اعترافها بالمجلة، ومنع كتابها ومحرريها من الخدمة الكنسية، وكان مدير تحريرها انذاك الدكتور سليمان نسيم، رفيق درب قداسة البابا شنودة الثالث، والذى قاد حملات الدفاع عن قداسته حين كان اسقفاً للتعليم، وحشد مظاهرة صاخبة فى باحة البطريركية، للتنديد بقرار البابا كيرلس السادس باعادة الاسقف للدير.
تولى الراهب باسيليوس المقارى مسئولية مكتبة الدير ومطبعته، التى شهدت تطورات كبيرة حتى صارت قادرة على انتاج الكتب فى كل مراحلها، بأحدث الطرق وماكينات الطباعة والإخراج الفنى بتقنيات متقدمة.
وقدم للمكتبة العديد من الكتب:
ـ تاريخ الكنيسة القبطية ـ الجزء الثانى ـ (من القرن السادس حتى القرن العاشر الميلاديين).
ـ تاريخ الكنيسة القبطية ـ الجزء الثالث ـ (من القرن الحادى عشر حتى القرن السابع عشر الميلاديين).
ـ دراسات فى آباء الكنيسة.
ـ الخلاص الثمين.
ـ علامات الأزمنة الأخيرة.
ـ إيماننا المسيحى (فى كتابين).
ـ التدبير الإلهى فى تأسيس الكنيسة.
ـ التدبير الألهى فى بنيان الكنيسة.
ـ السلطان الروحى فى الكنيسة (التقليد القانونى الكنسى فى اختيار واقامة بابا الإسكندرية ـ بحث وثائقى كنسى).
والكتب الثلاثة الأخيرة تطرح اكثر القضايا اثارة للجدل فى العقود الأخيرة، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات البينية داخل الكنيسة، والارتباكات التى سيطرت على المشهد الكنسى، والمشهد الديرى.
وعلى الرغم من مواقف الراهب الراحل باسيليوس المقارى المعلنة والموثقة والتى تتصدى للفكر السائد والمدعوم من القيادة الكنسية، لم يقترب منه أحد من المتربصين بمن يعلن معارضته، واكتفوا بسيل من التهديدات المرسلة التى لم تتجاوز أثير منابر تلك القيادة، ربما تحاشياً لفتح صندوقه الأسود الملئ بالأسرار التى قد تعصف بهم.
فى مطلع العام 2021 يرحل الاب الراهب باسيليوس المقارى، وتبقى كتبه ومقالاته وقضاياه، ويبقى حلمه بالإصلاح الكنسى قائماً.