بقلم : سعد الدين أبراهيم
فى صيف 1956، حصلت على شهادة الثانوية العامة، وكُنت من العشرة الأوائل. وسمح مجموعى بأن أختار أى كلية نظرية وأى قسم فى تِلك الكُلية. فتجولت بين كل كُليات الحقوق، والتجارة، ودار العلوم، والآداب. وفى تِلك الأخيرة، تجولت بين أقسامها المختلفة، من اللغات الشرقية إلى كل من اللغات الأوروبية، إلى التاريخ والجغرافيا، والاجتماع.
وقد استهوانى قسم الاجتماع، لأن به فروعًا لدراسة كل جوانب الحياة الإنسانية، من العائلة والدين إلى الاقتصاد والسياسة. ولم تكن كُلية الاقتصاد والعلوم السياسية قد أنشئت بعد، ولو كانت موجودة، فربما كُنت قد التحقت بها.
ورغم أن قرارى باختيار علم الاجتماع لم يحدث إلا قبل امتحانات الفصل الدراسى الأول بأسبوعين لتطوعى مع آلاف الشباب للدفاع عن قناة السويس، التى كان الرئيس جمال عبدالناصر قد أمّمها فى 26 يوليو 1952، إلا أن الحماس الوطنى العام ونشوة الإقامة فى القاهرة والتردد على حرمها الجامعى المهيب تُوّجت بنتائج نجاح باهرة.
وكان ضمن الصور المُعلقة فى مكتب عميد الكُلية الدكتور عزالدين فريد تلك التى كانت لشخصيات تعرّفت عليها بسهولة، مثل عميد الأدب العربى طه حسين، وأخرى لم أتعرف عليها فى حينه مثل نجيب محفوظ. وعلمت من أحد أساتذتى أن ذلك النجيب محفوظ هو أحد خريجى قسم الفلسفة والاجتماع قبل أن يستقلا عن بعضهما فى قسمين متجاورين فى نفس كلية الآداب. وكانت المرّة الأولى التى أسمع فيها الاسم.. ثم سمعت الاسم مجددًا فى السنة الثالثة ضمن مادة كانت مُقررة علينا، وهى عِلم الاجتماع الأدبى Sociology of Literary. وقال لنا أستاذ المادة فى حينه إن أحد مصادر المعرفة عن أى مجتمع هى التعرف على فنونه وآدابه. وعَلِقت تِلك المعلومة بذاكرتى، فبدأت قراءة روايات نجيب محفوظ، وخاصة «الثُّلاثية»، التى تعلمت منها الشىء الكثير عن المجتمع المصرى فى فترة ما بين الحربين 1918 - 1945.
واستمر شغفى بقراءة تِلك الأعمال الأدبية، وأستمتع بمشاهدة ما تحوّل منها إلى أفلام سينمائية، ثم إلى مسلسلات تليفزيونية فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى.
وكان ضمن تِلك الروائع الأدبية - التليفزيونية ما أبدعه صاحب اسم جديد علىّ فى حينه هو أسامة أنور عُكاشة، فى ثُلاثية مُبكرة له عن أسوار المدينة وقاع المدينة، وتوّجها بـ«ليالى الحلمية». وهو العمل الأدبى التليفزيونى الذى جعل من التبحر فى فهم شرائح عديدة من المجتمع المصرى فى النصف الأول من القرن العشرين مُتعة مُتكاملة - عقلية، ووجدانية، وبصرية - وحينما التقيته فى إحدى المناسبات وعبّرت له عن إعجابى الشديد، فاجأنى بأن ذلك يعود إلى أننا أبناء ميدان دراسى واحد، فهو خريج قسم الاجتماع بجامعة الإسكندرية، وحدثنى عن تأثره بالروائيين الفرنسيين «أميل زولا» و«فيكتور هوجو»، وبالراوئى الإنجليزى «تشارلز ديكنز».
استرجعت تِلك القراءات والشخصيات وأنا أتابع ما كُتب عن الفنان وحيد حامد بعد رحيله مؤخرًا، وما كتبه عنه الناقد الأدبى د. جابر عصفور، الذى زامله فى كلية الآداب بجامعة القاهرة فى النصف الأول من ستينيات القرن العشرين، حيث كان وحيد حامد طالبًا فى قسم الاجتماع، بينما عصفور فى قسم اللغة العربية بنفس تِلك الكُلية العتيدة، التى تخرج فيها قبل وحيد وجابر أفراد آخرون أغنوا حياة مصر الفكرية والروحية، مثل جمال حمدان، وزكى نجيب محمود، ورشاد رُشدى، وسُهير القلماوى، ومصطفى سويف. وربما صادفت وحيد حامد كطالب، حيث كُنتُ- أنا- مُعيدًا بنفس الكُلية فى بداية الستينيات.
ولا تعنى دراسات نجيب محفوظ وأسامة أنور عكاشة ووحيد حامد لعلم الاجتماع أن كل منَ يدرس ذلك العِلم يصبح مُبدعًا مثلهم. ولكن دراسة عِلم الاجتماع لمنَ تكون له نزعة إبداعية، ثراءً وعُمقًا، لما ينتجه من أعمال أدبية. وربما ما تركه لنا وحيد حامد حول جماعة الإخوان المسلمين أعمق من عشرات الكُتب التى تناولت سيرتهم.
وأثناء دراستى العُليا للاجتماع فى الولايات المتحدة، صادفت مؤلفات ومؤلفين متخصصين فى فرع عِلم اجتماع الأدب، ومؤلفات عديدة لدراسة المجتمع الأمريكى من خلال الأدب. وربما كان أبرز الأدباء الأمريكيين فى ذلك الصدد هو آرنست همنجواى فى روائعه «لمن تدق الأجراس»، و«عربة اسمها البهجة».
رحم الله كاتبنا الكبير وحيد حامد، وعوّض أهله ومُحبيه باستمرار مسيرة الإبداع والإضافة لقوة مصر الناعمة. والله على كل شىء قدير.
وعلى الله قصد السبيل
نقلا عن المصرى اليوم