فاطمة ناعوت
علَّ البعضَ لا يعرفُ أن كلمة «كريسماس» مصرية صميمة. وهى تجميع كلمتين: «كريست»، ومعناها السيد المسيح، عليه السلام، و«ماس» وتعنى: «ميلاد»، باللغة المصرية القديمة. ويكون جماع ما سبق: «كريسماس Christmas»، أى ميلاد المسيح. وهذا يدعونا كمصريين للفخر بأن لغتنا القديمة كانت المرجع لكل ثقافات العالم وأدبياته منذ قديم الأزمان. ولا عجب لأن مصرَ العظيمة حرثت فى حقل الحضارة قبل الحضارات، وشيّدت مجدَها الفريد فى فجر التاريخ الإنسانى، قبل إشراق نوره. ولا شكّ أن عام ٢٠٢٠ كان العام الأكثر قسوةً من بين الأعوام التى عاشتها البشريةُ المعاصرة، فحتى فى أزمنة الحروب العالمية الأولى والثانية، ورغم نعت: «عالمية»، إلا أنها كانت فى مناطق محددة وبين دول محددة، وكان حصد الأرواح مفهومًا ومنطقيًّا، فحين يتكلم السلاحُ، ينطق العنفُ والمصالحُ، فيكون الموتُ. الموتُ فى الحروب منطقىٌّ ومفهوم، مهما كان لا إنسانيًّا وغير رحيم. لكن ذلك الفيروس الضئيل «كوفيد- 19»، له منطقٌ مختلف غير مفهوم ولا منطقى، فقد جاء دون مقدمات على عكس الحروب، ودون سبب، عكس الحروب، ودون منطق سياسى أو عسكرى، عكس الحروب، ولم يترك بقعة سالمةً فى هذا الكوكب، عكس الحروب. حصد أرواحًا ما كنا نحسبُ أن نخسرها مبكرًا. وأصبح عدّادُ حصد الأرواح نشطًا واعتياديًّا وحزينًا على نحو لا تستوعبه عقولنا. وكان على البشرية أن تُعيد حساباتها وتنحو نحوًا أكثر رقيًّا وتحضرًا ورحمةً. هذا ما أرجوه لكى نقول لله إننا تعلّمنا شيئًا من هذه المحنة الكونية، التى لا ندرى متى تنتهى، وعلى أى نحو ستنتهى، وما حجم الخسائر البشرية والمادية التى سوف تنتهى عليها، إن انتهت، بإذن الله ورحمته.
لهذا لفت انتباهى خبرٌ صغير فى إحدى الصحف الغربية، منحنى بعضَ الرجاء فى أن الرسالة الأخلاقية والوجودية وراء الجائحة قد وصلت إلى البشر. رجلُ أعمال أمريكى يُدعى «مايكل إزموند» من ولاية فلوريدا، قرّر الاحتفال بالكريسماس وفرحة العام الجديد بطريقة مختلفة وجميلة، وتتناسب تمامًا مع ضائقة عام كان وبالًا على البشر، صحيًّا ونفسيًّا وماديًّا، فى جميع أنحاء الأرض. قرّر رجلُ الأعمال أن يتقمّص دور «بابا نويل»، الذى يدور على مداخن البيوت ليمنح الأطفالَ جميع ما تمنوه من هدايا طوال العام المنصرم. لكنه بدلًا من ذلك قام بدفع فواتير 144 أسرة مستحقة على جيرانه لجهاز الخدمات العامة من ماء وغاز وكهرباء ووقود وغيرها. وكانت تلك العائلات مُهدَّدة بقطع تلك الخدمات عنها لتأخرها فى تسديد الفواتير. وقال «إزموند»، فى تصريحاته، إن انتشار الوباء وتفاقم المرض والوفيات أجبرت الكثيرين على الانقطاع عن العمل، فأصبح الناسُ فى معظمهم غير قادرين على تلبية احتياجاتهم من الطعام والسكن والدواء، إضافة إلى تراكم الفواتير المستحقة عليهم، فكان قرارُه بتخفيف حدّة حزنهم بسداد ديونهم فى حضرة الميلاد المجيد.
هذا رجلٌ استوعب الرسالةَ التى ترسلها السماءُ إلى الأرض مع الجائحة المخيفة. أن نعود إلى إنسانيتنا ونتحرَّرَ من الأدران النفسية، التى تُباعد بيننا وبين باحة الإنسانية. أن نسمو فوق أنانيتنا ونتعلم كيف نحبُّ الآخرَ، مهما اختلف عنّا وتباعدت بيننا المسافاتُ فكريًّا أو دينيًّا.
تعوّدنا أن نُزيّن شجرات الصنوبر فى العام الجديد بالنجوم الملونة وكرات الثلج والأجراس وثمرات الفواكه المضيئة. واليوم علينا أن نتعلّم كيف نُزيّن شجرات أرواحنا بالحب والحنوّ والطيبة والتحضّر حتى يحبّنا الله، علّه يزيح عنّا تلك الغمّة الصعبة. وقد نبهنا الله تعالى فى غير موضع بأن الخير والشرَّ فى هذا العالم ليس إلا حصادَ ما زرع الإنسانُ لنفسه، فيقول تعالى فى سورة الأنفال: «ذلك بأنّ اللهَ لم يكُ مُغَيِّرًا نِّعمَةً أنعمَها على قَومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم وأن اللهَ سميعٌ عليمٌ». وفى سورة «الرعد» يقول تعالى: «إنَّ اللهَ لا يُغيّر ما بقومٍ حتى يغيِّروا ما بأنفسِهم وإذا أراد اللهُ بقومٍ سوءًا فلا مَرَدَّ له وما لهم من دونه من والٍ».
والحقُّ أننا لو لم نخرج من جائِحة كورونا الكونية أكثرَ أخلاقًا وحنوًّا وتحضّرًا وجمالًا، فيا خُسران بنى الإنسان! النوازلُ الفاجعاتُ ليست إلا مُعلِّمًا تمنحُه الطبيعةُ للإنسان ليتّضِعَ ويتهذَّبَ ويتأدَّبَ ويسمو ويتأمل نفسه، ليعرف كم هو صغيرٌ وكم هو بحاجة إلى أشقائه فى الإنسانية، فلا يتعالى ولا يتنمَّرُ ولا يغترُّ بمال وجبروت وصحّة. وهذا المعلِّم الحاسمُ أتعابُه باهظةُ الثمن، بكل أسف، فليس من تعليم مجانىّ. لهذا وجب علينا التعلُّم بقدر ذلك الثمن الباهظ الذى ندفعه، لكيلا نكون جماعةً من الحمقى. «الدينُ لله، والوطنُ لمَن يحنو على أبناء الوطن».
twitter:@fatimaNaoot
نقلا عن المصرى اليوم