الأنبا إرميا
تحدثنا فى مقالة سابقة عن دائرة السلام التى يحياها الإنسان مع الآخرين، والتى تستند إلى إدراك قواعد الإنسانية المشتركة التى تجمع البشر جميعًا، إلى جانب فَهم معنى «التنوع والتعددية»، وهو إحدى أهم دعائم السلام التى عرَفتها «مِصر» على طوال تاريخها الطويل. ويُعد التنوع أمرًا مهمًّا فى حياة البشر وبناء المجتمعات؛ فقد كشفت الأبحاث الحديثة فائدة التنوع وأهميته. ودعونا نأخذ مجال «العمل» نموذجًا لتطبيق التنوع.
أظهرت نتائج إحدى الدراسات التى أجرتها مجلة Harvard Business Review أن الفِرق التى تملك تنوعًا فى المعرفة ووجهات النظر، قد تمكنت من عبور التحديات واستكمال مهامها أسرع من الفرق التى بها تنوع أقل؛ إذ أدى تنفيذها للمهام إلى وقت أطول جدًّا أو انسحاب من الاختبار! وتشير نتائج الأبحاث عمومًا إلى أن فِرق العمل التى تمتاز بالتنوع تتسم بالذكاء الأعلى؛ فالعمل مع أشخاص مختلفين عنك يساعد ذهنك على تجاوز طرق التفكير التقليدية؛ ومن ثَم يتحسن أداء عقلك وقدراته.
يركز فريق العمل المتنوع فى جمع الحقائق بمدى أكبر وأكثر تأثيرًا عنه فى الفرق المتجانسة غير المتنوعة؛ ففى إحدى الدراسات الأمريكية التى نشرتها مجلة «علم نفس الاجتماع والشخصية»: وزع الباحثون 200 شخص على لجان تحكيم صورية، اشتملت بعضها على محكّمين من البيض فقط، فى حين شمِل بعضها الآخر البيض والسود. ثم عُرض مقطع فيديو على اللجان، يحتوى على محاكمة متهم أسود، فى حين الضحايا من البيض؛ ثم طُلب من اللجان أن تقدم رأيًا عن المتهم: أمذنب هو، أم لا؟ وجاءت نتيجة التجربة كالتالى: جمعت اللجان المتنوعة أكبر قدر من الحقائق عن القضية، مع قلة أخطاء فى أثناء مناقشة ما لديها من أدلة، وفرصة كبرى لتصحيحها خلال الحوارات، مقارنةً باللجان المتجانسة. وهٰكذا وُجد أن المجموعات المتنوعة تميل بدرجة عالية إلى مراجعة الحقائق والتحقق منها للحفاظ على الموضوعية، وهى أكثر وعيًا وإدراكًا لوقوع أى نوع من التحيز أو الجمود فى التفكير يعوق سعيها لمعرفة المعلومات، أو يتسبب فى وقوع مزيد من الأخطاء فى أثناء اتخاذ القرارات.
أيضًا يؤدى إلى تنوع البحث، لا عن المعلومات فقط، بل يهتم بمدى دقتها، فاختلاف طرق تفكير البشر تَحفِز إعمال الذهن بأسلوب أشمل وأدق وأعمق. أيضًا توصل الباحثون لأن زيادة التنوع الثقافى يؤدى إلى الابتكار، فمؤسسات الأعمال التى تقودها فِرق إدارة ذات تنوع ثقافى كانت أقدر على تطوير منتجات جديدة، مقارنة بالقيادة المتماثلة ثقافيًّا.
وقد يقول رأى إن التنوع يفقد المجتمع وَحدته، لكن من الممكن تحقيق وَحدة الشعب بالتعايش المشترك الذى يقود الإنسان إلى فَهم الآخر وإدراكه؛ ما يمكّنه من التعامل بأسلوب سليم. ويُعد الحوار إحدى أهم قنوات التقارب بين الناس ونشر ثقافة قَبول الآخر. ولا شك أن التشجيع على الحوار يَزيد من اتساع الأفْق، ومحاولة فَهم الآخر بشرح وجهة نظره؛ من أجل تفهم طريقة تفكيره؛ ومن ثم إيجاد أرضية مشتركة للتقريب بين وجهات النظر.
ومن الأمور المهمة فى التنوع:
■ إيجاد وسائل لدمج المجموعات معًا، بأسلوب يُشعر كل فرد بأن له رأيًا مقدرًا مسموعًا.
■ تأكيد الثقة بالنفس، وتشجيع الأفراد على التميز فى أداء أدوارهم.
■ تأكيد أهمية التعاون من أجل الوصول إلى الأفضل؛ فالأديان جميها تؤكد التعاون: ففى «القرآن»: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، وفى «الكتاب»: «اثْنَانِ خَيْرٌ مِنْ وَاحِدٍ، لِأَنَّ لَهُمَا أُجْرَةً لِتَعَبِهِمَا صَالِحَةً. لِأَنَّهُ إِنْ وَقَعَ أَحَدُهُمَا يُقِيمُهُ رَفِيقُهُ. وَوَيْلٌ لِمَنْ هُوَ وَحْدَهُ إِنْ وَقَعَ، إِذْ لَيْسَ ثَانٍ لِيُقِيمَهُ.. وَالْخَيْطُ الْمَثْلُوثُ لاَ يَنْقَطِعُ سَرِيعًا». وتقدم لنا الثقافة الشعبية أمثلة للتعاون: «إيد لوحدها ما تسقفش»، و«القفة أم ودنين يشيلوها اتنين».
ومن جهة أخرى، علينا تحاشى أسباب الصراعات، ومنها... والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!
نقلا عن المصري اليوم