ألفى شند
هل تؤثر الاخلاق الدينية للافراد والشعوب على العمل والاقتصاد ؟ وهل هناك ارتباط بين المعتقدات الدينية التى تسود مجتمعا ما وتقدم تلك المجتمعات اوتأخرها ؟ كان هذا السؤال محور رسالة الانبياء فى العهد القديم وجوهر رسالة السيد المسيح أعلنه فى بداية كرازته "السَّارِقُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ لِيَسْرِقَ وَيَذْبَحَ وَيُهْلِكَ وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ." (يوحنا 10 : 10) والخبر السار الذى اعلنه الملائكة السمائيين للرعاة ليلة ميلاده.
ماذ يقول الفلاسفة ؟
يرى الفيلسوف الالمانى والثورى الاشتراكى كارل ماركس (1818 – 1883) ان التفاعلات والتبينات الاجتماعية التى تحدث نتيجة لظروف الإنتاج (ظروف العمل) ومن تباين وضع الأفراد في نظام الإنتاج (امتلاكهم أو عدم امتلاكهم لوسائل الإنتاج) هى المسئولة عن التغيير للافضل . يُطلق على هذه الرؤية «المادية التاريخية»: ويُنظر الى تلك الظروف المؤثرة على أنها محرك التغيير الاجتماعي والتطور التاريخي. ويذهب الى ان محرّك التغيير هو العداء بين المجموعات الاجتماعية . وان كل تطور إجتماعى وليد أزمة .
وإذا كانت الماركسية تعتبر أن العامل الاقتصادي والاجتماعي هو الذي يحدد وعي الناس وحتمية فرص التطور . حيث يقول : " ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم والتوق الى الافضل" .
أما المفكر الاجتماعي الألماني ماكس فيبر (1809 - (1864 أحد أهم رواد علم الاجتماع، بعد تأسيسه على أيدي إميل دركهايم وأوجست كومت، - و هُو عِلم ديناميكيّ يبحثُ من خلال دراسة علمية في العلاّقاتِ الإنسانِيّة والاجتِماعيَّة ، ان التغيير يرتبط بالفكر الانسانى وخاصة الدينى . فقد ذهب فيبر بحكم ميوله البروتستانتية إلى نقيض الفكر اليساري البازغ في أوروبا، فعارض فكر كارل ماركس، لا سيما وصفه للدين بأنه أفيون الشعوب، يُستخدم من أجل إخضاع الطبقات المختلفة لمصلحة الطبقة الغنية والحاكمة في الانظمة ، سواء الرأسمالية أو غيرها . أكد فيبر أن أخلاقيات العمل فى كل الأديان، كانت من العوامل الحاسمة في تطور المجتمعات.
ففى كتابه «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» الذى صدرلاول مرة في1922 ، يقول : إن سلوك الأفراد في مختلف المجتمعات يفهم في إطار تصورهم العام للوجود وتعتبر المعتقدات الدينية وتفسيرها إحدى أهم العوامل التي تؤثر في سلوك الأفراد والجماعات بما في ذلك السلوك الاقتصادي. . وإن التصورات الدينية هي بالفعل إحدى محددات التطور والحداثة
.
يستند ماكس فيبر فى نظريته هذه على دراسة علمية تناولت عدد من الاديان الوضعية القديمة . وكذلك الاديان الكتابية الثلاثة اليهودية والمسيحية والاسلام . وفيما يتعلق بالمسيحية التى يمكن الجديث فيها يستشهد بنموذج نشأة الرأسمالية والأسباب والظروف التي أدت إلى تحول المجتمع الإقطاعي إلى المجتمع الرأسمالي .
فمع اعترافه بأهمية الأسباب والعوامل الاقتصادية والاجتماعية فى التطور، `ذهب كارل ماركس الى ان الاسباب الرئيسية للتغيير والتطور ترتبط بالجانب الفكرى وخاصة الفكر الديني ،ومستندا على نشأة الرأسمالية التى يعتبرها أحدى حلقات التطور ، كان مرجعها الأفكار الدينية الحديثة التى نادت بها ثورة الاصلاح الدينى (البروتستانتية) التي أخذت مكان الأفكار والقيم الكاثوليكية التى كانت تعطل التطور والفعل الاقتصادي .
فمن خلال مقارنته بين ألاخلاق البروتستانتية والكاثوليكية ، يرى أن البروتستانتية تهتم بمباهج الحياة وتتيح للفرد أن يعيش باستمتاع وإثارة ومجازفة على عكس ما تتسم به الكاثوليكية ألاكثر انفصالا عن العالم والتى لاتعطي المرء إلا المبالاة والزهد إزاء ثروات العالم . فيقول في كتابه "الكاثوليكي أكثر هدوءا، وهو مسكون بعطش قليل جدا إلى الكسب، ويفضل حياة آمنة، ولو مع مدخول ضئيل جدا، على حياة إثارة ومجازفة ولو وفرت له الثروات والأمجاد، حيث تقول الحكمة الشعبية بطرافة "إما أن تأكل جيدا أو أن تنام جيدا" في الحالة الحاضرة يفضل البروتستانتي أن يأكل جيدا بينما يفضل الكاثوليكي أن ينام هادئا" . ويرى ماكس فيبر إن الكاثوليكية جعلت من وصايا الكنيسة وكبح الغرائز والحياة النسكية الطريق للخلاص .
وان الافكار التى رفعتها ثورة الاصلاح البروتستانتية ساهمت في وضع اللبنات الأساسية لإنجاح التجربة الرأسمالية في المناطق التي انتشرت فيها البروتستانية لأسباب تتعلق بالتفسير البروتستانتى للكتاب المقدس وخصوصاً ما يتعلق منها بأخلاقيات العمل والثراء .وأن الدول والمقاطعات البروتستانتية كانت أكثر المناطق في القارة الأوروبية تقدما ونجاحاً، وان المقاطعات التى كانت تسود فيها الكاثوليكية بصورة عامة أقل من الناحية الاقتصادية والصناعية ،
وذلك لأن الكالفينية - نسبة الى اللاهوتى الفرنسى "جون كالفن" (1509 – 1564) الذي كان له تأثيرًا قويًا في وضع العقائد الأساسية للبروتستانتية - تعتبر الحياة الدينية مرتبطة بالحياة التي يعيشها الفرد بشكل عادي . وتتفق الفرق البروتستانتية جميعها على رفض التفسير الكاثوليكي لآية الانجيل «أن يدخل الجمل في ثَقْب الإبرة أيسرُ من أن يدخل الغني ملكوت الله» (مرقس 10 :25) ، حيث رأت الفرق البروتستانتية أن المقصود منها ليس الثراء في حد ذاته، ولكن «الجشع» المتولد عنه أو الغرور أو البخل، وهو ما فتح المجال للتفانى فى تحقيق اثراء من دون أي قيود. . وقد أدى ذلك إلى تحول مفهوم العمل من مجرد وسيلة للحياة إلى حافز للثراء . كما ان اباحة اللوثرية للربا الذى حرمته العقيدة الكاثوليكية كان نقطة الانطلاق لظهور الراسماليين الاوائل.
تعرضت نظرية ماكس فيبر للانتقاد طيلة القرن الماضي، ووضعت مؤلفات لا حصر لها في مجالات العلوم الاجتماعية النظرية والتطبيقية، على حد سواء لمساندة التفسيرات الفيبرية أو تفنيدها. وما زالت تثير المزيد من الجدل والنقاش والخلاف .
فى الختام :مما لاشك ان التغيير والاختراع وليد الحاجة سواء الاقتصادية او غيرها لكن فى المجتمعات المحافظة والدينية يظل أى تغيير أو تجديد مرهون بالقبول اخلاقيا ودينيا .فقد ذكر الادارى والاقتصادى البارز "سيد ابو النجا" فى كتابه "ذكريات عارية" ان السلطة الحاكمة فى المملكة العربية السعودية ، لم تسمح دخول التليفون الاراضى الحجازية الا بعد التأكد انه ليس عملا شيطانيا وسماع عبره بعض الايات القرانية .
من جهة أخرى يمكن القول ان الصراع الطبقى الذى صوره كارل ماركس أداة التغيير والتطور ، لايولد من عدم ، إنما وليد الوعى الفكرى كحق شرعى . فالثورة الصناعية فى القرن الثامن عشر الميلادى مهد لها الاصلاح الدينى داخل الكنيسة الكاثوليكية منذ القرن الثانى عش الميلادى. ويمكن القول أن منظومة الاخلاق المتعلقة بالتقاليد والمعتقدات والممارسات التى استند عليها فيبر فى نظريتة ليست اخلاق مطلقة ، بل نسبيه قابلة للتأويل والتجديد ، والمقارنة بين الاخلاق البروتستانتية والكاثوليكية التى لاحظ فيبر أنها لاتنطبق فى ذات الفترة على فرنسا الكاثوليكية التى وصفها بالكاثوليكية الكليفنية ، وباتت أحكام لاتنطبق على الكاثوليكية بعد انعقاد المجمع الفاتيكانى الثانى (1062 – 1965) والانفتاح على العالم المعلنة فى الوثيقة المجمعية التى تعرف باسم دستور "الكنيسة فى العالم المعاصر " وان كانت تدين الراسمالية المتوحشة.