*خالد عكاشه.
العديد من الأطراف داخل أثيوبيا؛ سواء المعارضين لآبي أحمد رئيس الوزراء الاثيوبي أو المنتمين إلى عرقيات بدأت تشعر بالتململ، جراء تعدد مشاهد الحرب الضروس التي تشنها القوات الفيدرالية ضد اقليم "تجراي"، يجمعون على أن التصعيد الاثيوبي الذي تشهده منطقة "الفشقة" السودانية ما هو إلى نوع مركب، من سياسة الهروب إلى الأمام التي لم يجد آبي أحمد مفر من اللجوء إليها، كي يعزز وضعه الداخلي المصاب بتصدع كبير لا تبدو في الأفق ملامح انفراجة قريبه له. فجاء البحث عن نزاع خارجي صرفا للأنظار عن الداخل وبغية ترميم الفجوات الواسعة التي بدأ يواجهها، على صعيد الحرب على "تجراي" وتوابعها المتمثلة في انفراط عقد القوميات الأخرى، التي بدأت تطل برأسها من أجل حصد مكاسب مأمولة على هامش ما يرونه على الأرض.
هذا لا يمثل ضربا مباشرا في صلب عقيدة "آبي أحمد" المتمثلة في استعادة دور دولة المركز القوية فحسب، بل هي أدخلته في تعقيدات لم يحسب لها حسابا آنيا على الأقل. فمن ضمن تفسيرات مسببات التصعيد والانزلاق السريع نحو الحرب الشاملة مع الجارة السودان، تأتي عرقية "الأمهرة" التي تشير كثير من الوقائع أنهم السبب الحقيقي لإشعال الفتيل، رغبة منهم في حصد فاتورة مشاركتهم لآبي أحمد في حربه ضد "التجراي"، فالمقابل غير المعلن لذلك كان اطلاق أيديهم في أراضي "الفشقة" السودانية الخصبة التي يمثل التواجد الأمهري فيها، الملمح البارز منذ تعاقبت السنون على هذه المشكلة القديمة المتجددة. لذلك ظلت الهجمات التي نفذتها مجموعات اثيوبية مسلحة ضد مواقع ودوريات عسكرية سودانية، محل ادعاء أديس ابابا بإنها عصابات خارج سيطرتها، في الوقت الذي تمثل فيه بشكل مباشر وحدات عسكرية تابعة للجيش المحلي لـ"الأمهرة"، وهناك من يذهب إلى أن آبي أحمد لا يغض الطرف عن ذلك فحسب، بل أنه لا يملك القدرة على ايقاف مثل تلك الممارسات التي أدخلته مع السودان في دوامة لم يحسب حساب تطورها الدراماتيكي على هذا النحو.
الضاغط أيضا على آبي أحمد أن مسلك التصعيد الأثيوبي، بات يمارس بحق المدنيين السودانيين ويكاد يسقط ضحايا يوميا، وغيرها من أمور الانفلات المتوقع لتلك المجموعات المسلحة التي تشبه "الجيوش الصغيرة"، وإن كانت في حقيقة تكوينها لا تبتعد كثيرا عن نمط وسلوك العصابات المسلحة. ففي أحدث مشاهد التصعيد على سبيل المثال؛ جاء الهجوم الذي نفذته مجموعة أثيوبية مسلحة استهدف محلية "القريشة" بشرق السودان، وراح ضحيته خمس سيدات وطفل وفقدان سيدتين، جميعهم مواطنين سودانيين كانوا يمارسون عملهم الروتيني المتعلق بعمليات الحصاد. لذلك بدت المواقف أكثر تباعدا من أي وقت مضى، فالسودان يرى بالفعل أن هذه الأحداث تجري على أرضه المعترف بها دوليا ومن أديس أبابا أيضا، حتى وإن ادعت أن هناك أوضاع ترتبت تاريخيا عبر السماح للمزارعين الأثيوبيين بالتواجد على مساحات من الأراضي عالية الخصوبة لتلك المنطقة، في حين لا تستطيع الادعاء بغير أنها أراضي سودانية.
في مواجهة تلك الاشكالية؛ تذهب اثيوبيا إلى ممارسة أساليبها التي اعتادت عليها في نزاعاتها العديدة مع كافة دول جوارها، عبر تمييع المسميات وتوصيف الأزمة باعتبارها نزاعات حدودية مع السودان. وفي حقيقة الأمر ليس هناك ثمة نزاع على حدود فيما يجري اليوم، فهو يجري على أراضي سودانية وبالرصاص الاثيوبي مما دفع السودان إلى خيار المواجهة الحتمي والمنطقي. فالذي لا مفر منه بالنسبة للقيادة السودانية أنها ستكرس جهدها للحصول على حقوقها، فضلا عن حماية أرواح مواطنيها للحد من نزيف الضحايا التي لن يكون مقبولا للرأي العام السوداني، تحمل مزيد من هذه الحوادث والهجمات التي يتابعونها يوميا بقدر عال من الترقب والاحتقان. وقد أكد وزير الإعلام السوداني "فيصل محمد صالح" اعتبار بلاده حماية الحدود ووضع علامات واضحة بين البلدين مهمة وطنية، مشددا على أن السودان لا يزال متمسك بخيار الحلول السلمية، في حال جرى طرحها بالجدية اللازمة وإشارة إلى عدم وجود نية مسبقة لشن حرب ضد الجانب الأثيوبي.
لكن الجدية التي تبحث عنها الخرطوم لدى الجانب الأثيوبي، في العودة إلى اتفاق 2008 الذي اعترفت فيه إثيوبيا بالحدود القانونية للسودان، ربما يبدو صعب المنال اليوم في ظل المستجدات التي تجري على الأرض، فالذي ترأس الوفد الإثيوبي حينها في المحادثات التي أدت إلى تسوية "آبي تسيهاي" القيادي البارز في "جبهة تحرير شعب تجراي"، وقت كانت عرقيته هي المهيمنة على السلطة بأديس ابابا. لكن بعد الإطاحة بحكم الجبهة من السلطة في إثيوبيا عام 2018، أدان زعماء عرقية "الأمهرة" الاتفاق ووصفوه بأنه كان بمثابة صفقة سرية ما بين الطرفين في مقابل عرقيتهم، على اعتبار أن الإثيوبيون الذين يسكنون "الفشقة" طوال تلك السنوات وحتى الآن هم من عرقية "الأمهرة". جانب آخر مما يلقي بظلاله على المشهد؛ يتمثل في "آبي أحمد" وتوازناته الداخلية التي ربطها بعرقية "الأمهرة"، باعتبارها الكتلة الانتخابية التي يعتمد عليها بشكل كبير، خاصة بعد أن فقد الدعم الكامل من قوميته "الأورومو" خلال السنوات الماضية، ويرى أن الكتلة الوحيدة القادرة على تصحيح هذا الخلل هي "الأمهرة"، التي تمثل ثاني أكبر مجموعة عرقية في إثيوبيا وتمثل له من قبل صراعه مع "التجراي"، ذراعه القوية التي يبطش بها عبر ما تتمتع به من مكونات عسكرية ومليشياتية، وبالفعل لم تخذله منذ أن فتح لها الطريق أمام ارتكاب جرائم الحرب ضد "التجراي" داخل اقليمهم وخارجه. لهذا تبدو معادلة التراجع الاثيوبي اليوم أمام الخرطوم، وفيما يخص "الفشقة" بالخصوص أمر بالغ التعقيد وبعيد المنال إلى حين يحدث اختراق لم تتشكل ملامحه بعد، أو أن تنقلب معادلات الصراع مع "التجراي" وهذا وارد بقوة، ويبقى أن تتمكن القوات السودانية من فرض أجندتها الوطنية على الأرض، مستمسكة بحقوقها التاريخية الثابته في أرضها وفي مهمة حماية أرواح مواطنيها السودانيين.