يوسف سيدهم
قد يعتقد البعض أن معيني قد نضب من الأفكار, ولم يبق سوي أن أجتر ما سبق أن تناولته في مقالاتي, لكن الحقيقة أن مراجعة وفحص عدد لا بأس به من القضايا التي كانت مثارة العام الماضي -أو حتي العام قبل الماضي- والتي انتفضت لها حكومتنا واعتبرتها ذات درجة ملحة تستوجب التصدي لها بالإصلاح والتطوير, ينتهي إلي أن تلك القضايا لاتزال عالقة ولم تمتد إليها سياسات الإصلاح والتطوير… ولست أقصد من ذلك توجيه اللوم إلي الحكومة, إذ أدرك حجم التحديات التي واجهتها وتصدت لها خلال العام المنصرم, لكني أذكر أن هناك من القضايا المهمة لاتزال في جعبتنا نخطو بها إلي العام الجديد بأمل التصدي لها والخلاص منها.
قضية اليوم موروثة من عام 2019 وتناولتها في 2020/1/26 -أي منذ عام بالتمام والكمال- تحت ذات العنوان الذي يتصدر هذا المقال, ومضي عام 2020 دون أن يطرأ عليها التطوير المأمول, وها نحن نعود ونحملها معنا إلي عام 2021… إنها قضية التوك توك والميني فان وكما يتضح من الاسم هي قضية ثنائية التوجه وتنطوي علي مشكلتين, فبينما صرحت لنا حكومتنا أن مشكلة التوك توك سيتم حلها عن طريق الميني فان تبين أن كلا منهما يمثل مشكلة في الشارع المصري, ولاتزال المشكلتان تستعصيان علي العلاج حتي تاريخه, وأرجو المعذرة إزاء تكرار تسجيل ما سبق أن كتبت في هذا الخصوص:
** التوك توك ظهر كوسيلة انتقال فرضتها طبيعة العشوائيات السكنية التي تركت تنمو بشكل فطري سرطاني دون تخطيط وتفتقر إلي شبكات الطرق بالمعايير العمرانية لتحل محلها شبكات من الأزقة الضيقة الملتوية التي لا تسمح للسيارات أو وسائل المواصلات بارتيادها, وبالتالي يقنع ساكنوها بالتنقل بواسطة الدراجات والدراجات البخارية وعربات الحنطور والكارو للخروج منها أو للدخول إلي عمقها… ولم يأت التوك توك ليخرق القانون أو ليتحدي قواعد المرور, إنما بدأ ظهوره في تجمعات علي أعتاب تلك العشوائيات عند التقائها بالطرق الرئيسية ولم يجرؤ سائقوه في البداية علي تجاوز مناطق عملهم والخروج خارج العشوائيات… لكن ماذا حدث؟
** مثلما غضت الحكومات المتعاقبة البصر عن ظهور واستشراء العشوائيات, سكتت أيضا علي ظهور التوك توك ولم تبادر بإخضاعه لمعايير الفحص الفني مثله مثل سائر المركبات التي تعمل في نقل المواطنين, فلا فرضت ترخيصه وتثبيت لوحات معدنية عليه, ولا ألزمت سائقيه بالحصول علي تراخيص قيادة, ولا حتي قامت بتحديد مناطق عمله داخل كردونات العشوائيات علي ألا يتجاوزها إلي شبكات الطرق خارجها… فكانت النتيجة الحتمية للتقاعس الحكومي وغياب الرقابة الصارمة أن انتشر التوك توك واستباح تشغيله وقيادته شباب وصبية غير مدربين علي أصول القيادة ولا يحملون تراخيص… بل الأخطر من ذلك أنهم مع غياب القانون والرقابة بدأوا علي استحياء تجاوز نطاق العشوائيات ومد مجال حركتهم خارجها علي الطرق الرئيسية… وما بدأ علي استحياء تمادي بكل جرأة وتحد ليستبيح ارتياد جميع الطرق ويزاحم حركة المرور في الشوارع, ولم لا؟! طالما لم يوقفه أحد أو تردعه سلطة.
** الميني فان هو طراز مصغر من سيارات الميكروباس التي تعمل بالأجرة في الطرق المصرية ويتم ترخيصها كسيارات أجرة, إلا أن الميني فان ظهر منذ سنوات يحمل ترخيص ملاكي ومثبتة عليه لوحات معدنية ملاكي… وبالرغم من ذلك عرفه المصريون علي أنه وسيلة نقل بالأجرة مثله مثل الميكروباس, ويستخدمونه في تنقلاتهم تحت سمع وبصر رجال المرور دون أي تدخل… ولا يخفي علي الكافة أن الميني فان بالرغم من خضوعه لترخيص الملاكي إلا أن حجمه الصغير وانفلات من يقودونه بات مصدر إزعاج في الشارع لقائدي السيارات.
** وسط كل ذلك اللغط واستفحال تلك التجاوزات فاجأنا الدكتور مصطفي مدبولي رئيس الوزراء في سبتمبر 2019 بإصدار توجيه بالبدء في برنامج لإحلال سيارات الميني فان التي وصفها بأنها آمنة ومرخصة محل التوك توك, وأشار وقتها المتحدث باسم رئاسة مجلس الوزراء إلي أنه سيتم عقد اجتماعات مع مصنعي التوك توك -ولاحظوا معي تعبير مصنعي التوك توك (!!) أي أن التوك توك الشيطاني غير القانوني يتم تصنيعه وتجميعه وتسويقه تحت سمع وبصر الدولة (!!)- بهدف تحويل خطوط إنتاجهم إلي الميني فان.
** الحقيقة أن التوك توك ليس الشيطان والميني فان ليس المخلص… لكنه التقاعس الحكومي هو المسئول عن ترك هذا الانفلات المزدوج, ولاتزال الفرصة سانحة لتقنين أوضاع التوك توك وتحديد مساراته وفرض رقابة صارمة علي ذلك حفاظا علي وسيلة تنقل آمنة يرتزق من ورائها مئات الآلاف من الشباب وتخدم ملايين المواطنين, كما لاتزال الفرصة سانحة لترخيص الميني فان كسيارات أجرة وتطبيق المعايير الفنية الآمنة عليها وعلي سائقيها حفاظا علي سلامة من يتنقلون بواسطتها وضمانا لانضباط حركتها في الشارع المصري.
*** والآن بعد أن حملنا هذه القضية من عام 2019 إلي عام 2020, نعود ونحملها معنا إلي عام 2021, ولا تبدو في الأفق أية سياسات أو إجراءات تنبئ بإصلاح المعوج الذي بشرتنا به الحكومة ورئيس الوزراء… فهل يحمل لنا هذا العام التطوير المأمول؟