د. نادر نور الدين محمد
سعدت كثيرا بافتتاح الرئيس عبد الفتاح السيسى لمشروع مستقبل مصر لاستصلاح نصف مليون فدان على محور الضبعة الساحل الشمالى. السبب أن الدولة بدأت تأخذ بالعلم فى تحديد مساحات استصلاح الأراضى تحت ظروف الشح المائى، فاتجهت إلى الشمال حيث المناخ المعتدل الذى يسمح بزراعة كافة أنواع الحاصلات الزراعية، مع أمطار شتوية توفر كثيرا من كميات مياه الرى، بالإضافة إلى القرب من الموانى المصرية على البحر المتوسط لتصدير المنتجات الزراعية، وأيضا القرب من الكثافات السكانية المقتدرة فى الدلتا والعاصمة، بما يضمن تسويق المنتج الزراعى بأسعار مربحة. هذا المحور يقربنا فى المستقبل القريب من التوسع فى استصلاح باقى أراضى الساحل الشمالى الغربى وصولا إلى مرسى مطروح والسلوم لنحو 2.5 مليون فدان من الأراضى المنبسطة القابلة للزراعة، والتى يمكن أن تخلق لمصر مستقبلا زراعيا كبيرا، بالإضافة إلى قابليتها للزراعة على الأمطار شتاء فى موسم يمتد من أكتوبر إلى مايو، كفيل بإنتاج زراعى جيد خاصة من المحاصيل قليلة العمر والمكوث فى الأرض، مثل الشعير وكل الخضروات، والأخذ بتوصيات منظمة الأغذية والزراعة من حتمية استفادة مصر من الأمطار الغزيرة شمالا فى الإنتاج الزراعى المباشر على الأمطار، أو بإنشاء مصائد الأمطار التى تخزن مياه الأمطار لاستخدامها لاحقا والتى تقدرها المنظمة بنحو 51 مليار متر مكعب سنويا على كافة أنحاء البلاد. وفى هذا الصدد نذكر بأن كل مشروعات استصلاح الأراضى الناجحة تقع فى شمال مصر وهى مشروعات النوبارية والتى أصبحت مسؤولة عن تغذية القاهرة والإسكندرية، ومعها مشروعات الصالحية ورمسيس ووادى الملاك ووادى النطرون والإسماعيلية الجديدة وشمال سيناء ومديرية التحرير وغيرها، ولا يوجد مشروع واحد فى الصعيد والذى ينبغى الاستفادة منه فى إنشاء المصانع التى تستوعب عمالة أكثر لتشغيل شباب الصعيد.
وفى المقابل تم الإعلان عن مشروع توشكى فى يناير 1997 أى منذ 24 عاما، وتم إنفاق نحو 7 مليارات جنيه كرقم رسمى، وتم إنشاء أكبر محطة لرفع للمياه فى العالم فى منطقة أبوسمبل على بحيرة ناصر، ومرت فترة الضمان والصيانة قبل أن تعمل أو حتى تختبر فى خطأ وتسرع غير مبرر. إعادة دراسة إمكانية العودة إلى مشروع زراعة توشكى هذه الأيام وتشكيل لجان جديدة بعد مرور 24 عاما على افتتاحه دون أدنى إنجاز بسبب أن هناك نفقات كبيرة أنفقت فعلا على المشروع، وينبغى البحث عن إمكانية استرداد جزء منها. وفى هذا الصدد ومن خبرة 44 عاما فى مجال استصلاح الأراضى والموارد المائية نقول إن منطقة توشكى منطقة عالية الحرارة، وإن زراعة الفدان فيها تستهلك أكثر من ضعف كميات المياه التى يستهلكها الفدان فى الشمال، وهذا سبب كاف لعدم العودة إلى توشكى بسبب معاناتنا من الشح المائى، حتى إن وزارة الرى قد حددت 5 مليارات متر مكعب من المياه العذبة عالية الجودة من بحيرة ناصر لزراعة المرحلة الأولى من توشكى بمساحة 540 ألف فدان، أى بحصة نحو عشرة آلاف م3 للفدان فى حين أنها اشترطت على المستثمرين والمزارعين شمالا عدم تجاوز حصة أربعة آلاف م3 للفدان فقط، بما يوضح أن الفدان فى توشكى الحارة الجافة معدومة الأمطار والبعيدة عن العمران وعن مناطق التكدس السكانى والموانى ومطارات التصدير، يبلغ مرة ونصفا قدر استهلاك الفدان من المياه فى الشمال، وهذا سبب كاف فى الوقت الراهن للابتعاد عن زراعة هذا الجزء شديد الحرارة وصاحب الصيف الطويل من البلاد.
اُقترح مشروع توشكى مع بدايات السبع سنوات السمان لفيضان عام 1988 وفتح مفيض توشكى لتصريف عدة مليارات من مياه الفيضان الزائدة عن سعة بحيرة ناصر للتخزين، وبالتالى حضر فكر إمكانية الاستفادة من هذه المياه المهدرة فى زراعة المنطقة المجاورة، متناسين أنها مجرد سبع سنوات تتكرر كل عشرين عاما من دورة فيضان النهر لسبع سمان وسبع عجاف وست فى المتوسط، وقد تزيد حاليا فترات الجفاف. الأمر الثانى أن أراضى توشكى أغلبها أراض حجرية صخرية سطحية وغير عميقة، وتنتمى بمناخها وبعدها عن العمران إلى الأراضى الهامشية الخادعة فى إمكانية زراعتها ولكنها لا تعطى أبدا أكثر من 25% من المحصول المتوقع؛ لأن الزراعة نفسها ليست دليل النجاح ولكن كمية المحصول ونوعيته والجدوى الاقتصادية للزراعة. يضاف إلى ذلك المناخ الحار صيفا الذى يجبرنا إما على الزراعة الشتوية والتوقف صيفا أو الاختيار بين عدد محدود جدا من الزراعات التى تجود فى مناخ توشكى القاسى والصعبة التسويق والبيع.
كدولة تعانى من الشح المائى ينبغى لها التركيز على الزراعة شمالا فى الساحل الشمالى الغربى، ثم الشرقى لشمال سيناء، الأقل استهلاكا للمياه والأعلى فى المحصول والقريب من الأسواق المحلية والعالمية، وحيث تجود كافة الزراعات، فبالنظر إلى خريطة وتاريخ الاستصلاح الناجح فى مصر سنجده فى الشمال فقط.
* أستاذ استصلاح الأراضى بجامعة القاهرة