بقلم: يوسف سيدهم
نعيش عصر تكنولوجيا جارفة وطاغية علي كل نواحي الحياة, بل إننا نلهث وراء رصد الوتيرة المتسارعة للتقدم والجديد في كل شيء لئلا يتجاوزنا ركب التغيير ونصبح منفصلين عن أدوات العصر… وبين التقليد والتغيير يتأرجح جيل تلو جيل, فالأقدم يتشبث بالأدوات والمعايير التي عهدها ويقاوم التنازل عنها, بينما الأحدث يحتفي بالتطور ويستوعبه بسهولة ويحله محل السائد من الأدوات والمعايير التي يعتبرها بالية وعفا عليها الزمن.
لكن هل بالفعل يمكن إزاحة الكثير من الثوابت التي نشأنا عليها واستبدالها بالتكنولوجيا الحديثة؟… اليوم أناقش واحدة من هذه الثوابت التي لا أتصور زوالها وهي ما أطلق عليه العنونة البريدية أو نظام تقسيم المناطق العمرانية وتسمية شوارعها وميادينها ومعالمها الرئيسية وصولا إلي ترقيم كل قطعة أرض فيها وهو بمثابة إصدار شهادة ميلاد ورقم قومي لكل مكان أو ما دأبنا علي تسميته عنوان المراسلة وتقوم به أجهزة الإدارة المحلية والتخطيط وسلطات البريد, ويترتب عليه تأسيس عنوان لكل مواطن أو نشاط أو كيان يمكن بواسطته الوصول إليه والتواصل معه.
نشأنا وكان هذا الواقع جزءا ثابتا من وعينا بالأماكن ولا غني عنه في انتقالاتنا وتحركاتنا واستخدامنا لشتي وسائل المواصلات العامة والخاصة, علاوة علي تعاملاتنا مع خدمات البريد والبرق -التلغراف- بما يتضمنه ذلك من مخاطبات رسمية ومكاتبات في شتي مجالات الأعمال والأنشطة… ولا يفوتني في هذا الخصوص أن أذكر أنه إذا كان لكل مكان ومبني رقم قومي هو عنوانه فإن ذلك الرقم هو عينه ما يدرج في بطاقة الرقم القومي للمواطن وبالتالي في سائر مستنداته الرسمية وكذلك في البيانات الرسمية لسائر أوجه النشاط الاقتصادي والتجاري والاجتماعي والخدمي وغيرها وغيرها… فماذا يكون الأمر إذا اهتز هذا الواقع وضاعت معالمه وارتبكت ثوابته؟
أتحدث في هذا الصدد عما نطلق عليه المجتمعات العمرانية الجديدة وهي التسمية التي باتت جزءا ثابتا في حياتنا منذ أكثر من ثلاثة عقود حتي إنها ألحقت بوزارات الإسكان في حكوماتنا المتعاقبة عبر تلك المدة… نشأت المجتمعات العمرانية الجديدة -ولا أقول العشوائيات- بناء علي سياسات تخطيطية متقدمة وراسخة وتم تقسيمها طبقا للاعتبارات التخطيطية إلي مناطق الأنشطة والمناطق الخدمية والمناطق السكنية وتوزعت ما بين التخطيط المفتوح بما يتضمنه من محاور رئيسية للحركة تتفرع منها شبكات طرق تتدرج في اتساعها حتي تصل الشوارع الفرعية التي تضم علي جانبيها القطع السكنية, وبين التخطيط المغلق أو الخاص وهو الذي ينقسم إلي منتجعات خاصة محاطة بأسوار ولها بوابات خاصة للدخول والخروج وكل منها يحمل اسمه الخاص الذي يعرف به.
وسط هذه الثورة العمرانية الهائلة تبدو هيئة البريد غائبة, والعناوين البريدية غير معروفة, والخدمات البريدية غير سائدة… وتسأل قاطني تلك المجتمعات العمرانية أو العاملين فيها أو المترددين عليها عن عناوينهم فيكتفون بذكر اسم المنتجع ورقم المبني أو الفيللا, فإذا استفسرت عن اسم شارع يقولون لك إن الشوارع غير مسماة (!!) وإن الاستدلال عن المقصد الذي تريده يكون بسؤال ممثلي شركات الأمن الداخلي الخاص بالمكان أو بالاهتداء بمعلم خاص كمركز تجاري أو مدرسة أو نشاط خدمي أو بمجرد تتبع تسلسل ترقيم العمارات والفيللات حتي تصل مقصدك… وتعود وتسأل: وماذا عن أية مراسلات رسمية أو اشتراكات موزعة عن طريق البريد؟… فيقولون إن ذلك غير وارد في تلك المجتمعات العمرانية الجديدة, وقاطنوها يعتمدون أساسا علي عناوين مراسلة خاصة بهم في سائر أحياء المدينة القديمة قبل انتقالهم إلي المجتمعات والمنتجعات الجديدة… أما السؤال الغريب الذي لا يملك أحد ردا عليه فهو: هل يمكن استخراج رقم قومي أو ترخيص قيادة أو ترخيص سيارة أو سجل تجاري أو ترخيص مهني منسوب إلي عنوان إقامة أو عنوان نشاط في تلك المجتمعات؟!!
أما إذا سأل أحد: وكيف يعيش ويتعايش المواطنون في تلك المناطق؟… هنا يأتي دور التكنولوجيا الذي ذكرته في مستهل المقال… فهم يعيشون ويتحركون ويتواصلون مع كافة الأنشطة والخدمات ووسائل الانتقال الخاصة من خلال الأنظمة الحديثة -التي لم تعد حديثة- لتحديد المواقع بواسطة الأقمار الصناعية والتي أصبحت منتشرة ومألوفة تستخدمها وتطبقها جميع الهواتف المحمولة التي نتعامل بها علاوة علي حشد كبير من السيارات حديثة التجهيز بأنظمة تحديد المواقع, وبفضلها يصل المترددون والزوار وبواسطتها تصل سائر الخدمات والمشتريات… أي أن الحياة الفعلية تمضي بكل سلاسة وانضباط, بينما الحياة الرسمية ماتزال تنتظر هيئة البريد!!!… وأكرر: أنا أتحدث عن المجتمعات العمرانية الجديدة وليس عن العشوائيات!!