عاطف بشاي
برحيل «عزت العلايلى» تفقد السينما المصرية عملاقًا من العمالقة الكبار الذين يضعهم جمهور المتلقين فى حدقات العيون وفى قلب القلب.. فقد قدم أعمالًا مشرفة ستظل رابضة فى الذاكرة على مدار سنوات العطاء الممتدة.. فمن ينسى دوره العبقرى فى فيلم «الأرض» الذى يخاطب من خلاله الذين يشبهونه ويشبهون لون الأرض الطيبة بكل عطائها الوفير وبكل جدبها فى الأوقات الصعبة.. إنه اليافع بقامته المديدة.. وجسده الممشوق.. وعينيه الثاقبتين فى غورهما وفى ألقهما الوهاج.. فنرى فيه فى دور الفلاح الأصيل «عبدالهادى» فروسية الريف وشموخه وخلاصة تضحيات أهله وناسه (الأرض لو عطشانة نرويها بدمانا).
وفى فيلم «السقا مات»، ينتصر «العلايلى» للحياة فى مواجهة الموت الذى يحاصره فى كل سنوات عمره.. ويأخذ هذا الانتصار شكل صحوة استنهاض الهمم وتحفيز الإرادة بمنح الماء والحياة لأهل الحى.. ويرمز إليها بقرار شركة المياه أن تسلمه مفتاح الصنبور. وفى فيلم «على من نطلق الرصاص» يصل إلى تجسيد دوره كمحقق فى قضية مهمة متصلة بالفساد.. فيعبر بأداء بالغ التميز والإتقان عن شخصية مركّبة تحمل رؤية غاضبة لواقع سياسى واجتماعى متردٍ.. وفى فيلم «الناس والنيل»، وهو اللقاء الثالث الذى يجمعه بالمخرج الكبير «يوسف شاهين».. يقدم دورًا وطنيًا يتسم بالحرارة والحماسة والعاطفة الجياشة تجاه وطن يخوض مرحلة مصيرية فى معركة البناء، يواجه من خلالها تحديات كبيرة فى إتمام مشروعه القومى الكبير لبناء السد العالى، حيث تلتف حوله الجماهير لتحقيق إرادتها العميقة لصنع مستقبل مشرق.. وفى فيلم «أهل القمة» عن قصة «نجيب محفوظ» وإخراج «على بدرخان»، يمثل دور ضابط الشرطة الشريف المخلص فى عمله والذى يمارس مهنته بنجاح ونشاط ضد النشالين واللصوص، فيهاجم أوكارهم ويقبض على «زعتر النورى» ويزج به فى السجن.. ثم تكون المفارقة الصاعقة أن يصبح اللص الصغير لصًا كبيرًا فى زمن الانفتاح الاقتصادى.. فيتقدم للزواج من ابنة أخت الضابط التى توافق عليه هربًا من ظروفها المادية الطاحنة.. ليمثل الفيلم عذاباته المتأرجحة بين مُثُله العليا وبين واقع مرير يفرض نفسه على أسرته وعلى المجتمع بأسره..
وفى فيلم «التوت والنبوت» يمثل ببراعة حكمة القوة فى زمن فرض العدالة وتحقيق حلم البؤساء فى جمع الحرافيش حوله والدفاع عنهم واسترداد حقوقهم.. إنه المنقذ الذى حولهم من صعاليك مطحونين إلى سادة.. وفى فيلم «الاختيار» يخال للمتلقى فى الوهلة الأولى أن «عزت العلايلى» تمرد من خلال شخصيتى «سيد» الكاتب وشقيقه «محمود» البحار على أن يحبسه المخرجون فى الأدوار ذات الطبيعة الإيجابية والسلوك الأخلاقى.. ولكن بتأمل الأبعاد الاجتماعية والنفسية للشخصيتين، يمكن أن ندرك أن «سيد» فى سلوكه المتحرر المتمرد على التقاليد والأعراف، فإنه لا يخاصم الأخلاق وليس بوهيميًا بالمعنى الذى يجعله عربيدًا مستهترًا.. بل بمعنى لفظه للزيف والكذب والتكلف والفساد والانتهازية والتمركز الذميم حول الذات المتورمة.. عكس «محمود»، المكبل بقيود ومحاذير وسقف محدد لا يمكن تجاوزه.
وهكذا تتسق معالم الشخصية الإيجابية التى ينحاز إلى تجسيدها «عزت العلايلى» على الشاشة واستمرأ المخرجون أن يختاروه لها.. مع توجهه الوطنى وإحساسه العميق بالانتماء لتراب هذه الأرض المقدسة.. ليشكلا نموذجًا فريدًا لفنان مصرى صاحب رسالة واضحة فى الإعلاء من قيم المواطنة.. والتعبير عن ملامح الشخصية المصرية الأصيلة التى تتسم بالشرف والعزة والكرامة.. وما الوهج الساطع فى الأداء والتعبير الفنى إلا صدى وانعكاس لموقفه الفكرى تجاه عالمه ووطنه.. والذى تغذيه ثقافة رفيعة وموهبة فياضة. أسعدنى الحظ بالتعاون مع «عزت العلايلى» من خلال فيلم «إلى أين تأخذنى هذه الطفلة» (1989)، إنتاج أفلام التليفزيون فى عصرها الذهبى.. عن قصة قصيرة لـ«إحسان عبدالقدوس» وإخراج «شفيق شامية» وكتبت لها السيناريو والحوار.. وقد برع فى أداء دور صعب مركب، جسّد فيه شخصية مريض نفسى يعانى من صراع داخلى عنيف بين الموروثات العتيقة والرؤية العصرية للحياة.. واستطاع من خلال جلسات العلاج مع الطبيب النفسى أن يقدم مشاهد متفردة فى أداء محكم بقدر كبير من الصدق والمعايشة.. ومقدرة بارعة فى إبراز التحولات المختلفة فى صراع الأضداد بين الشعور واللا شعور.
وقد شدنى إخلاصه البالغ فى دراسة كل أبعاد الشخصية والنقاش الطويل معى ومع المخرج فى أدق التفاصيل.. وسلوكه الراقى أثناء التصوير الذى يتسم بالهدوء والرزانة والثقة فى إمكانياته الفنية فى التعبير.. ورغبته المستمرة فى الإجادة من خلال وعيه بأبعاد الشخصية التى يؤديها، ومفاتيحها وسرها الدفين والقدرة على فك رموزها والنفاذ إلى أعماقها.
فأى ممثل قدير ورائع ومبهر كان وسيظل درة ثمينة من درر الفن السابع فى بلادنا.
Atef.beshay@windowslive.com
نقلا عن المصرى اليوم