بقلم : خالد عكاشة
المجموعة العسكرية التى نفذت الانقلاب على حكم «عدنان مندريس» فى العام 1960، اعتمدت فى نجاحها بشكل كبير على النبرة القومية المتطرفة التى نشرها «ألب أرسلان توركيش»، وأمثاله وتابعوه من المؤمنين بهذا الفكر العنصرى الذى مثّل القصف التمهيدى الناجح لإزاحة السلطة، التى كانت تحاول أن تؤسس لمشهد دولة طبيعية لها تحالفاتها وشراكاتها الدولية، ولها نمط متوازن مقبول للحكم بالداخل. لكن سرعان ما استشعرت تلك المجموعة (38 ضابطاً) برئاسة الجنرال «جمال جورسيل»، أن هذا التيار الذى يقبع فى القلب منه الضابط توركيش رفيقهم داخل المجموعة يُعد مهدداً كبيراً فى حال بدأت الذراع الشبابية المسلحة فى التنامى وفرض نفسها على الساحة. وهذا ما دفع قيادات الانقلاب إلى إزاحة توركيش إلى خارج تركيا، كما ذكرنا بالمقال السابق، لكن الحريق كانت جذوته قد أُطلقت بالفعل وبدأ التأسيس الحقيقى لمنظمة «الذئاب الرمادية» التى أخذت على عاتقها، منذ هذا التاريخ المبكر من عمر الدولة الحديثة، فرض قيم التعصب والتطرف للقومية التركية بالنار والفوضى والسلاح.
هذه المنظمة تأسست على أسطورة قديمة، ملخصها أن قبائل الأتراك الذين عاشوا فى وسط آسيا تعرضوا فى إحدى حقبهم الزمنية إلى هجوم عنيف أدى إلى إبادتهم جميعاً، إلا طفلاً وحيداً هرب إلى الغابات، وبفضل «ذئبة» اعتنت به حين وجدته جريحاً، كبر واستطاع أن يحافظ على العرق التركى الذى كان على وشك الاندثار، وأعاد إنتاج سلالته الجديدة فى خليط ما بين البشر والذئاب، وللحفاظ على عرقهم الافتراضى اختاروا لمنظمتهم تسمية «الذئاب الرمادية». وتأسست عقيدة تلك المنظمة على حزمة من الأيديولوجيات التى تؤمن بأن العرق والأمة التركية متفوقة، وأن الهدف المقدس أن تنمو الدولة التركية لتضم (65 مليون) مواطن، حينذاك كان عدد الأتراك فى داخل
تركيا لا يتجاوز (35 مليوناً). ولكى تحقق هذه الأهداف يجب على أعضائها أن يكونوا مدربين على استخدام العنف والحرب إذا استلزم الأمر، باعتبارها مبدأ مقدس يعيد الجنس التركى الذى تفرّق فى بلدان عدة، إلى أحضان وطنهم الأم تحت هذه المظلة.
ظلت منظمة «الذئاب الرمادية» تعمل فى الظل وتتقوى كذراع مسلحة لحزب «الحركة القومية» الذى تأسس على يد الضابط التركى توركيش، إلى أن حان وقت انخراطها الفعال فى ساحة العمل السياسى التركى، حيث تُعد الأحداث التى جرت فى 1 مايو 1977 وعُرفت بـ«مذبحة ميدان تقسيم» من أكثر الأعمال التى ظلت مسجلة بحق هذه المنظمة، حين قام أعضاؤها بالهجوم المسلح على المفكرين والنشطاء اليساريين والليبراليين فى احتفالهم بعيد العمال، فالوقائع المسجلة حينها أفادت بأن أنصار التيار الاشتراكى تجمّعوا فى «ميدان تقسيم» بإسطنبول، للاحتفال بعيد العمال، حيث وصل الحضور حينها لما يقارب (500 ألف شخص)، وبينما فعاليات الاحتفال جارية قام مجهولون بفتح نيران أسلحتهم الرشاشة على الجماهير المحتفلة، ليسقط قتلى تجاوز عددهم 50 ضحية، وبلغت أعداد المصابين نحو 300 شخص. ونُسبت هذه المجزرة إلى منظمة «الذئاب الرمادية»، حيث كشفت التحقيقات حينها أن التيار القومى، فى ظل صراعاته مع الأحزاب اليسارية، قام بدفع عناصره المسلحة للدخول والتمركز بأعلى البنايات المطلة على الميدان، والانتظار لحين اكتمال الحضور الحاشد المتوقع فى هذه الذكرى التى تنظم كل عام، ومن ثم فتح النيران بشكل عشوائى، مما تسبب فى ذعر هائل أوقع العدد الكبير من الضحايا.
لم تكن هذه الحادثة هى الوحيدة، بل صار ذلك نمطاً سقط المجتمع التركى تحت وطأته بصورة متسارعة فى تلك السنوات، فالسلطات التركية وثّقت قيام المنظمة بنحو (700 هجوم) ما بين عامى 1975 و1980، خلَّفت آلافاً من الضحايا مختلفى الانتماءات. فميدان تقسيم الذى شهد هذه المجزرة بحق اليساريين، لحقهم العلويون فى ال
عام الذى يليه 1978 بمذبحة «قهرمان مرعش»، وآخرون من الأكراد والأرمن وذوو الجنسيات اليونانية، بل والمنتمون لأحزاب كانت تنافس وتناهض حزب «الحركة القومية». وامتد الأمر إلى عمليات اغتيال لسياسيين، كما جرى فى محاولة اغتيال رئيس حزب الشعب الجمهورى «بولنت أجاويد» فى مطار أزمير
عام 1977، فضلاً عن الهجوم على جامعات عديدة بعمليات نوعية، مثل واقعة إلقاء قنبلة على طلاب يساريين داخل «جامعة إسطنبول»، ومن ثم توالت الاعتداءات على هذا النمط لكل المختلفين مع تيار التطرف القومى. وهو ما استدعى هجمات مماثلة كردة فعل بعد تغول التيار القومى، فقد ذهب الطلاب اليساريون على خلفية عدد من الهجمات بحقهم إلى اغتيال نائب حزب «الحركة القومية» عن إسطنبول «رجب هاشاتلى» فى منزله، وتبنّت العملية منظمة يسارية تُدعى «ائتلاف الدعاية الماركسية المسلحة»، لتقوم منظمة «الذئاب الرمادية» بالانتقام الفورى بعد أيام بقتل 7 طلاب، وأُعلن حينها أن العملية جاءت كرد على عملية اغتيال هاشاتلى.
على هذا الإيقاع من الفوضى الأمنية الواسعة التى سادت خلال تلك الحقبة رسخت منظمة «الذئاب الرمادية» وتيارها القومى المتطرف أقدامهم داخل النسيج التركى، وجاء هذا البطش الذى مارسوه بحق كافة الأطياف المعادية لهم كترجمة لعقيدة التعصب التى تسللت إلى نفوس عدد كبير من شباب تلك المرحلة واستمرت إلى الآن تحت ذريعة إعلاء القيم التركية والدفاع عن المصالح الوطنية من وجهة نظرهم المنحرفة. والمثير أن هذا الصعود الفوضوى المتطرف مثّل الإرهاصات التى استند عليها
الانقلاب العسكرى الشهير فى ال
عام 1980، الذى تزعمه الجنرال «كنعان إيفرين» تحت زعم حماية المبادئ الأساسية للجمهورية التركية، لتكون أولى خطواته قطع دابر جميع الأحزاب السياسية التقليدية تقريباً، طال هذا الإغلاق حزب «الحركة القومية» فى البداية، قبل أن يلتف على القرار بعد سنوات ويدشن تحالفه مع الإسلاميين تحت مسمى حزبى جديد «العمل القومى»، ليدخل مع «حزب الرفاه» بقيادة نجم الدين أربكان إلى البرلمان فى انتخابات 1991، ويمثل منذ ذلك الحين الذراع اليمنى لتيار الإسلام السياسى التركى.. وعن هذا الأمر نستكمل الأسبوع القادم بمشيئة الله.
نقلا عن الوطن