فاروق عطية
ثورة 1919م هي ثوره شعبيه و سياسيه حدثت بمصر في عهد السلطان فؤاد الأول شاركت فيها كل طبقات الشعب وطوائفه كالطلبة والموطفين والعمال والتجّار والحرفيين والفلاحين والسيدات. ثورة أحيت في المصريين شعورهم القومي وأحاسيس العزة والفخار بأمجاد مصر وتاريخها التليد.
ورغم حدوثها في بداية القرن العشرين ومصر ليست في أفضل حالاتها ولكنها عبأت المواطنين بأفكار تنادي بالرقي والتقدم، تفجرت خلالها نهضة ثقافية عمت مصر كلها عبّر عنها بشموخ تمثال نهضة مصر للمثال محمود مختار.
انتهت الحرب العالمية الأولى في 11 نوفمبر 1918م بهزيمة قوات المحور وانتصار قوات الحلفاء. وفي يوم الأحد 9 مارس 1919م بدأت سلسلة من الاحتجاجات الشعبية على السياسة البريطانية في مصر بقيادة الوفد المصري برياسة سعد زغلول باشا ومجموعة من السياسين المصريين، نتيجة لتذمر الشعب من الاحتلال البريطاني وتغلغله في شؤون الدولة وإلغاء الدستور وفرض الحماية علي مصر واعلان الأحكام العرفية وطغيان المصالح الأجنبية على الاقتصاد، وألغاء وزارة الخارجية تبعا لنظام الحماية.
تولت السلطة العرفية حكم البلاد، فتزايد سخط الشعب على الحماية واتخاذ القوات البريطانية من مصر قاعدة حربية لحلفائها وقاعدة لحملاتها على العراق وشبه الجزيرة العربية. جمعت القوات البريطانية مئات الألاف من العمال والفلاحين بالإكراه لإرسالهم في مختلف حملاتها للعمل مع الجيش البريطاني، فيما سمي بـ "فرقة العمل المصرية"، وقد مات منهم الكثيرون في هذه الحملات.
كانت مصر قبل الثورة من الناحية السياسية مشحونة بالوطنية، مليئة بالشباب المتحمس لمحاربة الاستعمار والمطالبة باستقلال مصر بكل الطرق المشروعة. كانت البداية علي يد مصطفي كامل ومحمد فريد مؤسسا الحزب الوطني ذوي التوجه اليميني الإسلامي الذي يعتبر الدين قبل الوطن، وهنا يحيرني تسمية الحزب (بالوطني) حيث أن عمله الدأوب للحصول علي استقلال مصر لم يكن للوطن بل لعودة الخلافة الإسلامية سيان تحت الحكم العثماني أو اعترافا بالسلطان فؤاد أو ملك السعودية المنافس للسلطان فؤاد كخليفة للمسلمين. كما كان هناك آخرون أمثال سعد زغلول ومحمد محمود وحمد الباسل وسينوت حنا وإسماعيل صدقى ومكرم عبيد وغيرهم الذين شكلوا حزب الوفد المصري، وكان توجههم لبراليا علمانيا يصب في مصلحة الوطن أولا إيمانا بأن الدين لله والوطن للجميع.
أما من الناحية الاجتماعية، انتشر التعليم وارتقت أساليب الحياة عما كانت قبل 1919م وحدثت نهضة أدبية وعلمية وصحفية، ما جعل المجتمع على دراية أكثر وأشد تبرمًا على النُظُم الاستعمارية. خلال عامي 1918-1919م اتسع نطاق الحراك الوطني ليشمل طبقات كانت بمعزل عنه كالموظفين والفلاحين وكذلك طبقة الأعيان والنساء.
اقتصاديا، طغى على الاقتصاد المصري في هذه الفترة ازدياد النفوذ الأجنبي في البنوك والمصانع والمتاجر، كما هبط سعر القطن الذي كان عصب الاقتصاد المصري والسلعة الأولى للتصدير هبوطا شديدا، كما استعملت الحكومة القسوة في جمع الضرائب مع ارتفاع شديد لأسعار السلع الاستهلاكية والرئيسية ونقصها مما أدي لمزيد من الفقر واضطرار القادرين لبيع ما يملكون.
اجتمع سعد زغلول مع بعض أعضاء الجمعية التشريعية وغيرهم، لرغبتهم في تأليف وفد يسافر إلى باريس للمطالبة باستقلال مصر لدي مؤتمر السلام. ذهب سعد زغلول وعلي شعراوي وعبد العزيز فهمي إلى دار الحماية البريطانية لمقابلة السير ريجنالد ونجت عقب عقد الهدنة الأربعاء 13 نوفمبر 1918م ودار الحديث بينهم دون نتيجة تذكر. كما اجتمع فريق من أعضاء نادي المدارس العليا اتجهت أنظارهم لتكليف مجموعة سعد زغلول بالمطالبة بالاستقلال.
حين قال ونجت لسعد ورفاقه أنهم لا يمثلون الشعب المصري، بدأ الوفد في جمع توكيلات من المصريين لتوكيلهم في الدفاع عن القضية المصرية. في هذه الأثناء ظهرت حركة آخرى من أعضاء الحزب الوطني لتأليف وفد آخر بتأييد من عُمر طوسون وكيل الجمعية التشريعية. قابل سعد زغلول عُمر طوسون في محاولة منه لتوحيد صف الوفد، فقبل طوسون فضُمّ مصطفى النحاس وحافظ عفيفي للوفد.
أيد حسين رشدي باشا رئيس الوزراتء وعدلي يكن باشا وزير المعارف حركة التوكيلات هذه، وطلبا من المعتمد البريطاني السماح لهما وللوفد بالسفر، فجاء الرد بعدم الموافقة بحجة انشغال اللورد بلفور بمفاوضات الصلح لقرب انعقاد مؤتمر السلام.
تقدم الأثنين باستقالتها للسلطان فؤاد الأول في 2 ديسمبر 1918م، لم يقبل السلطان الاستقالة. في 21 يناير 1919م سافر المعتمد البريطاني السير ونجت إلى لندن في محاولة لإقناع حكومته بسفر الوزيرين إلى باريس لكن الحكومة البريطانية رفضت، فبقي هناك ولم يعد. أصرّ الأنجليز على موقفهم وظلت الأستقالة معلقة. تراجعت السلطات الأنجليزية فيما بعد، وسمحت للوزيرين بالسفر إلى لندن دون غيرهم. أصرّ رشدي باشا على طلبه بالسماح للوفد المصري بالسفر إلى باريس، فرفض الأنجليز مما أدى إلى قبول السلطان الأستقالة في مارس 1919م.
ألقى سعد زغلول أول خطاب في أول اجتماع بعد تأليف الوفد في 13 يناير 1919م بمنزل حمد الباسل، أعلن فيه أن الحماية باطلة بموجب القانون الدولي، ووضع في هذا الخطاب مبادئ الدستور السياسي لمصر المستقلة؛ تضمنت المبادئ بقاء نظام الامتيازات الأجنبية بهدف كسب تأييد الدول التي يتمتّع رعايها بهذه الأمتيازات حتى تعاون مصر في مؤتمر السلام لنيل استقلالها.
أرسل الوفد بصفته ممثلا للشعب خطابًا في 2 مارس 1919م للسلطان ليُعلن عن رفضه قبوله استقالة الوزارة. تبع هذا الخطاب خطابًا آخر في 4 مارس إلى ممثلي الدول الأجنبية يحتج فيه على منع الأنجليز المصريين من السفر إلى مؤتمر السلام.
في 6 مارس استدعى الجنرال وطسن قائد القواتْ البريطانية سعد زغلول وأعضاء الوفد لمقابلته. قام الجنرال وطسون بتحذيرهم من القيام بأي عمل يعيق الحماية البريطانية على مصر، واتهمهم بتعطيل تشكيل الوزارة الجديدة ما يجعلهم عرضة للأحكام العرفية. أرسل سعد زعلول احتجاجا إلى لويد جورج رئيس الوزارة الإنجليزية، أعلن فيه أنه يطلب "الأستقلال التام" لبلاده وأنه يرى في الحماية عملا دوليا غير مشروع.
في 8 مارس أمرت السلطات البريطانية باعتقال مجموعة الوفد وحبسهم في "ثُكنات قصر النيل" ثم تم نفيهم في اليوم التالي إلى مالطا، انتشرت أخبار نفي أعضاء الوفد في 9 مارس، ما تسسب في بدأ مظاهرات الاحتجاج.
بدأت أحدث الثورة في صباح يوم الأحد 9 مارس 1919م، بقيام طلبة الجامعة خاصة طلبة مدرسة الحقوق بمظاهرات واحتجاجات. في 10 مارس أعلن طلاب المدارس الأميرية والأزهر الإضراب العام وشكلوا مظاهرة كبرى وأنضم إليهم من صادفهم من أفراد الشعب.
في أثناء مرور المتظاهرين بشارع الدواوين حيث كان يتواجد بعض الجنود الإنجليز فأطلقوا النار عليهم، ما أدى إلى وفاة أول أثنين من المتظاهرين. تعدى بعض المتظاهرين على عربات الترام فأتلفوا كثيرًا منها وتعطيل سيرها وتحطيم بعض واجهات المتاجر المملوكة للأجانب. في 11 مارس:استاء الطلبة من وقوع هذه الحوادث فبادروا إلى إذاعة منشور في الصحف يعربون فيه عن أسفهم لهذه الأحداث. استمر الطلبة في تظاهراتهم وأضرب سائقي سيارات الأجرة فتعطلت المواصلات في جميع أنحاء القاهرة.
أصدر القائد العام للقوات البريطانية أمرًا بمنع المظاهرات، وبدأت القوات في تنفيذ الأمر بالأسلحة والمدافع وإطلاق النار على من صادفهم من المتظاهرين. كانت أول مصادمة بين الجنود والمتظاهرين بميدان باب الحديد وشارع عماد الدين. أضرب المحاميين أيضًا في هذا اليوم. ازدادت المظاهرات يوما بعد يوم في القاهرة والمدن والقري المصرية، ومعها زادت المصادمات بين المتظاهرين والقوات البريطانية وتعرض الكثيرين للقتل والإصابة. وفي 20 مارس تظاهرت مجموعة من السيدات أمام بيت الأمة بقيادة صفية زغلزل، فحاصرتهم القوات البريطانية لأكثر من ساعتين. شاهد القنصل الأمريكي الحصار فذهب إلى مقر القيادة البريطانية بفندق سافوي محتجا، فصُدر أمر بفض الحصار. أصدرت بريطانيا في 21 مارس قرارا بتعين المارشال اللنبي الذي اجتمع بعد وصوله بحسين رشدي وأعضاء وزارته وباقي أعضاء الوفد الغير معتقليين، وطلب مساعدتهم في الحد من هذه التظاهرات. أذاع السلطان فؤاد نداءً إلى الشعب مطالبًا فيه بالكف عن التظاهرات، وأعقبه خبر من اللنبي بالإفراج عن المعتقلين والسماح بالسفر لمن يريد.
في 10 ابريل 1919م خرجت مظاهرة كبيرة ضمت عددا كبيرا من النساء حتي وصلن مقر المعتمد البريطاني وطالبن بمقابلتة لرفع احتجاجا مكتوبا إليه، فضرب العسكر الانجليزي حصارا حولهن، فتقدمت شفيقة محمد وهي تحمل العلم المصري في يد والاحتجاج في اليد الآخرى راكضة إلي مكتب المعتمد البريطاني الذي تناول الاحتجاج منها ودعاها للدخول فدخلت خلفه وحين أخبرته بفحوى الاحتجاج مزقه بكل صلف وطردها من مكتبه، وعند خروجها واجهها الجنود بوابل من الطلقات فكانت أول شهيدة للثورة.
وصل الوفد المصري إلى باريس في 18 إبريل، وقد نشر نبأ في اليوم التالي بموافقة الولايات المتحدة على الحماية التي فرضتها إنجلترا على مصر. قرر الوفد إيفاد محمد محمود باشا إلى الولايات المتحدة للدعاية وانتقاد إعلان الرئيس ويلسون. في 7 مايو أُعلنت شروط الصلح التي قررها الحلفاء وسُلمت للوفد الألماني، وللأسف كانت مؤيدة للحماية التي فرضتها إنجلترا على مصر. قبلت ألمانيا في 2 يونيو ووقعت على شروط الصلح التي صارت جزءًا من معاهدة فرساي.
احتج الوفد المصري على بنود الإتفاقية وأرسل خطابًا للسيد جورج كلمنسو رئيس الوزراء الفرنسي ورئيس الؤتمر. حدث انشقاق بالوفد وقرر في يوليو فصل إسماعيل صدقي ومحمود أبو النصر، بحجة مخالفتهم مبدا الوفد وخطته، وفصل حسين واصف بعد ذلك. لم يكن بعض أعضاء الوفد على تآلُف مع سعد زغلول ظنًا منهم أنه يريد إعلان الجمهورية في مصر، في حين كان أعضاء الوفد وخصوصًا من الأعيان يرون خطورة هذه الخطوة.
لم يستجب أعضاء مؤتمر الصلح بباريس لمطالب الوفد المصري فعاد المصريون إلي الثورة وازداد حماسهم، وقاطع الشعب البضائع الإنجليزية، وقامت جماعات الفلاحين بقطع خطوط السكك الحديدية في قرى ومدن الوجهين القبلي والبحري، ومهاجمة أقسام البوليس. وعقب انتشار قطع خطوط السكك الحديد، اصدرت السلطات بيانات تهدد بإعدام كل من يساهم في ذلك، وبحرق القرى المجاورة للخطوط التي يتم قطعها. تم تشكيل العديد من المحاكم العسكرية لمحاكمة المشاركين في الثورة، ولم تتردد القوات البريطانية في تنفيذ تهديداتها ضد القرى، حيث أُحرقت هذه القرى ونُهبت ممتلكات الفلاحين، وتم قتل وجلد الفلاحين واغتصاب عدد من النساء.
في أبريل 1919م، فكرت الحكومة البريطانية في حل لمشكلة الثورة المصرية وتفاديها، فأقتُرح إيفاد لجنة للتحقيق في اسبابها. في 22 سبتمبر 1919م أعلنت لندن عن تشكيل لجنة برئاسة اللورد الفريد ملنر وزير المستعمرات حينها. وصلت اللجنة إلى بورسعيد في 7 ديسمبر واستقل القطار منها إلى القاهرة، وكانت التظاهرات والاحتجاجات تعم القاهرة والاسكندرية وجميع المدن المصرية. قضت لجنة ملنر في مصر نحو ثلاثة أشهر تدرس فيها أسباب الثورة وتبحث عن علاج لها.
غادر اللورد ملنر مصر في 6 مارس 1920م. اجتمعت الجمعية التشريعية في بيت الأمة لأول مرة بعد أن عُطلت عام 1914م، وأصدرت قرارت ببطلان الحماية الإنجليزية على مصر وطالبت بالاستقلام التام لمصر والسودان. أزعج الاجتماع السلطات البريطانية ما أدي إلى إصدار اللورد اللنبي أمر عسكري بمنع اجتماع الجمعية.