يوسف سيدهم
موقف صارم جدير بالتوقف عنده والإشادة به حدث في الأسبوع الأول من هذا الشهر تحت قبة مجلس النواب, عندما رفض رئيس المجلس المستشار حنفي جبالي تحدث بعض النواب مستخدمين في حديثهم المصطلحات الإنجليزية في خلط مخل مع موضوعات أحاديثهم باللغة العربية… احتج رئيس المجلس علي ذلك المنحي مطالبا النواب الالتزام باللغة العربية ومقررا حذف المصطلحات الإنجليزية من المضبطة الرسمية للجلسة.
هذه الانتفاضة الكريمة من المستشار حنفي جبالي جاءت لتضع حدا لأمر مسكوت عنه -علي الأقل علي مستوي البرلمان- ولتطلق صيحة استنكار وتحذير لموجات من الانفلات تسود المجتمع وتستبيح الاستهانة باللغة العربية -فصحي كانت أو عامية- كلغة حديث وتخاطب وتواصل, وكأن اللغة العربية قاصرة عن الوفاء بشتي احتياجات التعبير بحيث يضطر مستخدموها إلي الاستعانة بالإنجليزية -أو الفرنسية أو غيرها من اللغات- لسد نقص في المرادفات أو المصطلحات… لكن حاشا أن يكون ذلك سببا أو مبررا, فالحقيقة أن تلك الظاهرة التي تركت تستشري مرجعها إما جهل المتحدث باللغة العربية وإمكاناتها غير المحدودة ومواكبتها لكل تطور وجديد, وإما زهو المتحدث بإلمامه بلغة أجنبية يتعالي بفرضها علي أقرانه سواء كانوا ملمين بها من عدمه, وإما معاناة المتحدث من أزمة هوية تجعله يتنازل عن لغته ليلجأ إلي لغات أخري للتعبير عن نفسه… وفي جميع هذه الحالات يكون المتحدث غير مدرك أنه وهو يحاول الزهو بنفسه والاستعلاء علي الآخرين إنما هو في الحقيقة يصدر شخصية مهتزة غير مكترثة بالتواصل الكامل مع الآخرين.
لست ضد إجادة اللغات الأجنبية بجانب لغتنا الوطنية الأم -المصرية العامية والعربية الفصحي- ولعل من المزايا الجمة التي فرضها الواقع الجغرافي والتاريخي لبلادنا إلمام نسبة لا يستهان بها من المصريين بلغة أجنبية أو أكثر تعليما وحديثا وتواصلا… وأنا أنتمي إلي جيل نشأ وتعلم في مدارس اللغات التي تولت تدريس اللغتين الإنجليزية والفرنسية- أو الألمانية أو الإيطالية- بجانب حرصها الشديد علي تعليم اللغة العربية قراءة وكتابة وتعبيرا وتاريخا وأدبا وفكرا علي أيدي معلمين مرموقين… وكان اهتمام مدارس اللغات تلك باللغة العربية اهتماما بالغا مشهودا له ولم تكن أبدا متسامحة مع العبث باللغة أو خلط مرادفاتها مع لغة أخري, وكان حرصها علي الدوام ترسيخ القدرة علي التواصل بأي من اللغات عربية كانت أو أجنبية بطلاقة ودون التأرجح بين لغة وأخري في الحديث الواحد أو استعارة مصطلحات من لغة خلطا مع لغة أخري, الأمر الذي كان يعد قصورا من المتحدث وليس زهوا أو استعلاء.
لكن ماذا حدث وغير من هذه المفاهيم الأصيلة؟… إن التساهل والتسامح لعبا دورا مؤسفا أضر بنظامنا التعليمي أولا, فقد كانت هناك تقاليد صارمة في استعمال اللغات, كل في مجالها وفي العلوم التي تدرس بواسطتها حيث لم يكن يسمح للمدرس بتدريس الإنجليزية وهو يشرح مرادفاتها وقواعدها باللغة العربية كما لم تستخدم اللغة العربية في شرح ومناقشة العلوم التي تدرس بالإنجليزية -أو الفرنسية أو غيرها- مثل الرياضيات أو الفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء… إلخ, فترسخ مبدأ احترام اللغة وعدم الخلط بينها وبين لغة أخري… أما التردي الذي حاق بالعملية التعليمية منذ فترة غير قصيرة من الزمن فهو تآكل قدرات المعلم لغويا واستباحته شرح مادته الأجنبية باللغة العربية بدعوي تقريبها من تلاميذه أو طلبته فساهم عن قصد أو دون قصد في فتح الباب لتداخل اللغات وخلطها في الحديث الواحد بحيث أصبح ذلك منحي مقبولا للتعبير وسرعان ما تحول إلي سلوك ساع للزهو والتفرد والاستعلاء.
ولا غرابة إذا كان الأمر كذلك أن نشهد في واقعنا المعاصر استسلاما كاملا لتلك الظاهرة وانسياقا عفويا لها… نجد ذلك في الإعلام المسموع والمرئي حيث استشري بشكل مرضي مستفز يجعل المرء يتساءل: وماذا عن المستمعين والمشاهدين الذين يفترضون أنهم يتلقون المضمون المقدم باللغة العربية؟.. هل يستطيعون متابعة وتفهم ذلك المضمون بعد تطعيمه بمفردات ومصطلحات أجنبية؟.. وعندما أقول إنه استشري أقصد حشدا هائلا من البرامج الحوارية علي كافة الأصعدة, لكن يتجسد هذا الانفلات علي أشده عبر برامج المنوعات والبرامج الفنية وأخيرا خرج عن كل حدود السيطرة في الإعلانات وفي أسماء المنتجات التجارية حتي أنك ترثي لحال اللغة العربية وتخال أنها في النزع الأخير!!
ومرة أخري إذا كان الأمر كذلك فلا عجب أن نجد أن جميع صور التكنولوجيا علاوة علي وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة- والتي يشكل الجيل الجديد أطفالا وشبابا نسبة لا يستهان بها من مستخدميها- تنزع إلي خلط اللغة العربية باللغات الأجنبية نطقا وكتابة!!… ورأينا إبداع الشباب في دمج المرادفات والمصطلحات الأجنبية في اللغة العربية علاوة علي استحداثهم تهجين الحروف اللاتينية بأرقام أشبه بحروف عربية لتسهيل نطق الكلمات العربية مكتوبة بالإنجليزية!!… ومع كل هذا التطور -إذا جاز لنا أن نطلق عليه تطورا- انهارت الحدود بين اللغات ولم يعد استخدام أي لغة مقصورا عليها وحدها إنما يكمن التمرس والإتقان في التأرجح بين اللغات!!
لقد كتبت في مناسبة سابقة: اللغة العربية تودع الخط الرقعة… ولكن يبدو أننا نقترب من واقع مخيف وهو أن اللغة العربية تودع اللغة العربية!!