كمال زاخر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 ـ ارهاصات البحث عن مخارج
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دخلت الكنيسة القبطية نفق العزلة مبكراً حين ناصبت اليونانية اللغة والثقافة العداء، وقاطعتها فى قرار انفعالى جاء فى اعقاب صراعات مجمع خلقيدونية، فى القرن الخامس الميلادى، بغض النظر عن الجدل اللاهوتى "الكريستولوجى" المشتعل وقتها، والذى تولد فى أروقته، ولعلنا نقارن بين رد فعل الكنيسة القبطية ورد فعل الكنيسة السريانية التى رفضت مقررات هذا المجمع، ولم تقاطع اليونانية واحتفظت بلغتها الأم.
وتتعمق العزلة مجدداً حين فرض على الأقباط اللسان العربى، فى غضون القرن العاشر الميلادى، واللافت أن الكنائس الشقيقة الواقعة فى حزام الحكم العربى، ظلت محتفظة بلغتها الأم، السريانية والكلدانية وهى تنويعات على اللغة الآرامية القديمة، بجوار العربية، بينما انزوى اللسان القبطى داخل اروقة الصلوات الطقسية!!. وكان لهذا الإنقطاع تداعياته السلبية، ففيما راكمت الكنائس الشقيقة على الزخم اللاهوتى الآبائى، المدون فى أغلبه باليونانية، رحنا نعيد انتاجه مرتين، عبر الترجمة، والتى عانت بالضرورة من متاعب ومصاعب الإنتقال، مع كل مرة ننتقل لساناً وثقافةً الى لغة أحرى، ولم تكن المشكلة فى الانتقال الأول بقدر فداحتها فى الانتقال الثانى.
كانت مصر ترزح تحت نير الاحتلال العثمانى الذى لم يكن يعنيه إلا استنزاف موارد مصر وتفريغها من قوتها الناعمة، وتهجير الأيدى العاملة الى اسطنبول، والبطش بفلاحيها وفرض المزيد من الأعباء عليهم، حتى جاءت الحملة الفرنسية التى تطارد انجلترا غريمتها، وتسعى لقطع التواصل بينها وبين مستعمراتها بالهند، وفى اعطاف الحملة تجد الحملات التبشيرية طريقها إلى مصر، وتنفتح شهية الغرب على جنوب البحر المتوسط، تذهب الحملة بعد ثلاث سنوات ونيف، بعد أن استفاق المصريون على عالم مختلف، ويأتى محمد على وتدور عجلة الاستفاقة، وتتوالى الأحداث سراعاً، وقبل أن يغلق القرن التاسع عشر عقوده الأخيرة تكون انجلترا قد احتلت مصر، وتتوالى الحملات التبشيرية، التى توجه نشاطها باتجاه الأقباط خاصة فى الصعيد الأوسط، اسيوط والمنيا. ومع التغيرات العالمية فى موازين القوى تدخل الولايات المتحدة فى حلبة الحملات التبشيرية، بقوة.
كانت الكنيسة القبطية تعانى من تداعيات الانقطاع المعرفى، ومن تحديات الحملات التبشيرية، بما تحمله من ادوات حداثية ـ بمعايير وقتها ـ وكان بقاء الكنيسة القبطية على قيد الحياة مرده منظومتها الليتورجية المتوارثة والتى تنتقل بالتواتر جيلياً، عبر الطقوس والصلوات المحفوظة والتى تحمل سر بقائها، فهى تحمل مخزون ايمانها ولاهوتها، وعقائدها موقعة على الزمن، وقد سارع البطريرك غبريال بن تريك (1131 ـ 1146م) بتعريب الصلوات والطقوس، ووضع العديد من القوانين المنظمة للكنيسة، واعاد ترتيب اسبوع الالام، واللافت أنه لم يكن من طغمة الرهبان بل كان علمانياً، ويشغل منصب رئيس ديوان الإنشاء فى بلاط الخليفة الحافظ لدين الله الفاطمى، وكان يتقن القبطية والعربية، ورغم قصر مدة ولايته إلا أنه استطاع أن يؤسس لبداية مؤثرة لاستعادة الكنيسة عافيتها بقدر ما. ولكنها تمر بقمم قليلة وقيعان كثيرة.
تعبر الكنيسة بفترات صعبة ومؤلمة، لكنها كانت على موعد مع الاستنارة بقدوم البابا كيرلس الرابع (1854 ـ 1861م) والذى ادرك أهمية التعليم والثقافة كمدخل اساسى للخروج من النفق الذى طال، فبادر بإنشاء مدرسة نظامية للتعليم المدنى واستقدم ثانى أكبر مطبعة بعد المطبعة الأميرية، وشرع ابواب مدارسه لكل المصريين، بل وافتتح مدرسة للبنات مستبقا بهذا دعوة قاسم أمين بعقود، وكانت المدارس مفتوحة لكل المصريين.
وشأن كل باباوات الإصلاح قوبل بهجمات شرسة، سواء من داخل الكنيسة أو خارجها حتى قضى نحبه بعد سنوات قليلة من توليه قيادة الكنيسة، فى ظروف غامضة، ويواصل بعده بسنوات قليلة البابا كيرلس الخامس (1874 ـ 1927) مشروعه النهضوى عبر الاستمرار فى انشاء سلسلة مدارس الأقباط، ويؤسس مدرسة للتعليم الصناعى، ويفتتح مدرسة للتعليم اللاهوتى (المدرسة الإكليريكية)، ويؤسس منظومة مدارس الأحد لتعليم الأطفال والصبية ـ أولاد وبنات ـ العلوم الكنسية، وينشئ مدرسة الرهبان بضاحية حلوان لإعداد الرهبان تهيئة للإختيار منهم للأسقفية، والتى أغلقت فيما بعد فى عصر البابا كيرلس السادس، لتتحول مقراً لأسقف حلوان.
فى غضون ذلك تشهد مصر والكنيسة حراكاً علمانياً قبطياً عبر العديد من الجمعيات الأهلية التى تسهم فى انشاء سلاسل مدارس تابعة لها، فضلاً عن المستشفيات والمؤسسات الاجتماعية لخدمة المسنين والأيتام، فى سياق حراك مجتمعى عام يحسب العصر الذهبى للعمل الاجتماعى المدنى، فيما بين ثورتى 19 و 52 والتى يسميها الكاتب والباحث نبيل عبد الفتاح "المرحلة شبة الليبرالية"، والتى تشهد تراجعاً حاداً فى النصف الثانى من القرن العشرين، كما فى الدولة كذلك فى الكنيسة، وفيها تتجمع خيوط تشكل الحالة القبطية المعاشة، ولهذا حديث قادم.