حمدي رزق
بعد التحية:
أنا، كمواطن مصرى، ودولتى وحكومتى وشعبى نحترم منظومة الأخلاق العالمية، ويحترم الكبير والصغير فينا إعلان حقوق الإنسان العالمى، ويعرف التلميذ الصغير في مدارسنا أن هناك قواسم حضارية مشتركة بين كل حضارات العالم، ويعرف الفلاحون في المزارع، والعمال في المصانع، والعجائز الذين يجلسون أمام المدفأة في شتاء بلادنا، كل هؤلاء يعرفون أن كل دولة لها طريقتها الخاصة في التعبير عن المنظومة الأخلاقية العالمية.
كما أن العالِم الجهبذ والعامل البسيط في بلادنا ذات العمق الحضارى يعرفان أن كل دولة لها خصوصية مستمدة من حضارتها ودينها وأعرافها المتوارثة، وأنه لا يمكن لدولة أن تجبر كوكب الأرض كله بخطوط طوله وعرضه على مفهوم موحد للأخلاق والقيم.
الكل يعرف أن هذا هراء، ومن باب نافلة القول، أو من باب التحديد الجامع والمانع أقول إن هذا كله معروفٌ لكل الدول التي تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، لذلك ليست هناك مشكلة لدينا عندما نقول إن منظومة القيم الأمريكية المستقرة في أمريكا بولاياتها، تلك القيم التي استنها الآباء المؤسسون لأمريكا الحديثة، كالمساواة والاستقلالية والتنافسية.. وغيرها هي قيم بعيدة كل البعد عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول المستقلة عبر البحار وخارج الحدود، وتبتعد بعرض الأطلنطى عن بسط النفوذ بقوة السلاح، والطائرات المسيرة، وصواريخ الأسطول السادس، والحصار الاقتصادى، والعنصرية، ووصم الرافضين للهيمنة الأمريكية بالإرهاب.
ومن فرط تقديرنا للقيم الأخلاقية الأمريكية التي تحترم عدم التدخل في شؤون دول العالم مازلنا نترحم على رؤساء أمريكا العظماء، أمثال لينكولن، وفرانكلين روزفلت، وثيودور روزفلت الاابن.
لذا أستغرب جدا، وحقَّ لى أن أستغرب، من دفقة تصريحات أمريكية منسوبة لأقطاب الإدارة الديمقراطية الجديدة في البيت الأبيض تتحدث عن مجموعة القيم الأمريكية بمفاهيم مغايرة لما هو مستقر في العقل الأمريكى الواعى بمنظومة القيم الأمريكية الحقيقية.
وجه الاستغراب هو أن الديمقراطيين يسنون منظومة قيم للتصدير لا تعبر عن أمريكا الحقيقية، ويفرضونها فرضا على العالم بقوة الطائرات المسيرة تحت زعم نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتصدقهم طائفة من المفكرين والسياسيين في المنطقة، أولئك الذين يشكلون «حصان طروادة» الشهير في الاختراق حتى السيطرة، مثلا يُصرِّح وزير الخارجية الأمريكى الجديد «أنتونى بلينكين»، توصيفًا «مبعوث القيم الأمريكية»، حامل الرسالة، يقول في تغريدة عبر حسابه على موقع «تويتر»: «سننشط الدبلوماسية الأمريكية لتعزيز مصالحنا وقيمنا في العالم».
يا سلام، أو بالأحرى قل «لا سلام»، إذ يبدو أن حديث القيم الأمريكية يسرى في سماء العالم كالسحاب، ولا تدركه العقول بفهم حصيف، لسان الإدارة الديمقراطية يلهج بالقيم الأمريكية دون بيان ما لونها.. هل هي صفراء تسر الناظرين؟!.
أفصح أيها السياسى الأريب، إن القيم تشابهت علينا، هل هي من القيم المستقرة، أم قيم أخرى يجرى تسييدها تباعًا دون شرعية دولية تسندها؟!.
يا أيها الرجل الذي يمثل القيم الأمريكية، اِعلم أن مجموعة القيم خارج إطار الشرعية الدولية هي نوعٌ من الاحتيال المخطط يجيده «قراصنة الكاريبى» وعصابات المافيا التي حاربتها أمريكا قرونًا.
تعجز كل الألسنة عن الإفصاح، ولكن لسان «بلينكين» فصيح في التعبير عن مطامع الإدارة الجديدة، نصًا ولفظًا: «مصالحنا قبل قيمنا» ثم «قيمنا تالية لمصالحنا»!.. المصالح الأمريكية أولا، والقيم عقد ملون في جِيد إدارة عجوز في قمة رأسها.
القيم التي يتحدث عنها مبعوث القيم الأمريكية جدٌ خافية على الأعين المبصرة، ومصالحكم معروفة ليست خافية، لكن حديث القيم الأمريكية لا يستقيم، وفرض القيم الأمريكية المستحدثة على شعوب ودول تملك تاريخًا قيميًّا أقدم من تاريخ الاستقلال الأمريكى صعب البلع، ناهيك عن الهضم، تؤدى في الأخير إلى عسر هضم عقلى.
والرد المثالى: قيمكم تلزمكم، ولكلٍّ قيمه وثوابته التي يدافع عنها، إن تفرض قيمكم علينا فهذا أمر جد غريب.. الساسة الديمقراطيون يتخيلون أنهم أصحاب رسالة تحوى قيمًا ومبادئ عابرة للحدود.
عزيزى «بلينكين».. دلنا على هذه القيم، إن القيم تشابهت علينا، هل ضرب سوريا تواليا كتحذير لإيران على الأراضى السورية من القيم في شىء؟ً، الغارات هنا ينسحب عليها المثل العربى التليد: «الحكى إلك يا كنة.. اسمعى يا جارة..».. وهذا يحتاج لترجمة ليستوعبها العقل الأمريكى الذي يمارس عالميا على طريقة «رعاة البقر».
هل الاغتيالات الأمريكية العابرة للحدود في العراق من القيم في شىء؟!.
هل سجن أبوغريب وجونتانامو من القيم في شىء؟!.
هل ممارسة سياسات الإذعان في العواصم العربية والفناء اللاتينى من القيم الأمريكية في شىء؟!.
وما القيم الأمريكية يا كبير القيمة تجاه الأقلية المسلمة في «الإيجور»، الذين يتعرضون للإبادة الجماعية أمام أنظار العالم كله، وما رأيكم تجاه السيد «أبى أحمد» الحاصل على جائزة نوبل للسلام، والذى يشن حرب إبادة ضد سكان إقليم «التيجراى» والفظائع التي يرتكبها هناك؟!.
عندما تتحدثون عن القيم أيها السيد المحترم، اضربوا لنا مثلًا نتمثله.. هل سحق إرادة الشعب الفلسطينى وتسليمه للمحتل الإسرائيلى من القيم المعتمدة لهذه الإدارة القيمة؟!.
هل استباحة القدس عاصمة للاحتلال الإسرائيلى من القيم في شىء؟!.
هل استنزاف ثروات الخليج وابتزاز حكامه بتقارير استخباراتية لا تخلو من عنعنات واستنتاجات دون دلائل يقينية، كما حدث قبلا يا ولداه في عراق صدام حسين، وأكذوبة أسلحة الدمار الشامل (الفضيحة المفضوحة)، هل هذا يدخل في باب القيم السامية؟!.
أيها السيد المحترم بلينكن، عندما تتحدث عن القيم ليتك تعمم مسودة بالقيم الأمريكية لنقف على ملامحها، لعل وعسى نصيب منها شيئا. فقد يعم الخير على بلاد العالمين من خلالكم، ولكن وا أسفاه، بلينكن «مبعوث القيم الأمريكية» يهتبلنا بحديث مخاتل، إذا كانت القيم تترجم في نشر الديمقراطية الأمريكية، فلتنظر ماذا فعلتم في العراق تحت ذريعة نشر الديمقراطية، تشتتت فرقًا وأحزابًا تتقاتل، الدماء التي أريقت في العراق في رقبتكم، ولم يطرف لكم جفن يا أصحاب القيم، حتى إنكم لم تحكموا القيم الأمريكية، ولم تعتذروا لشعب العراق ولشعوب العالم، ولم تترحموا على أرواح الأبرياء؟!.
تتحدثون بملء الفم عن السجون والمعتقلات، وهذا حديث مخاتل، أَتَأْمُرُونَ الأنظمة العربية بحقوق الإنسان وَتَنسَوْنَ سجون إسرائيل التي تغتال شباب المجاهدين العرب دون تعليق.. مجرد تعليق، لا نقول احتجاجًا على عار سجون الاحتلال؟!.. حقوق التعبير التي تتشدقون بها جرى نسفها كلية بحذف تغريدات ترامب وأنصاره على «تويتر» ومنعه ومنعهم من الوصول إلى ميكروفون أو صحيفة حتى ساعته وتاريخه بأوامر الإدارة الأمريكية.. فلنسمع ما يقولون، لعل وعسى نرى تطبيقات القيم الأمريكية الرصينة في العناية بحرية الرأى نموذجا ومثالا على معلم القيم الإنسانية.
حقوق الإنسان مربط الفرس، مطية، وأداة الابتزاز التي استنها الرئيس أوباما (سابقًا) لابتزاز العواصم البعيدة والقريبة بسجلات حقوق الإنسان، استخدام سياسى فج لأسمى العناوين، تفتح السجلات على هوى الإدارة وحسب مصالحها، تفتح سجلات روسيا والصين، وتصمت عن سجلات إسرائيل، بلينكين يصمت عن هذه الحقوق إذا كانت تحقق مصالحه، وكذا فعل ترامب وإدارته.. لا يختلفان، المصلحة الأمريكية أولًا ولتذهبْ حقوق الإنسان إلى الجحيم.
مصالح بلينكين مع قطر وإسرائيل تمنعه من نشر ملفات حقوق الإنسان، انشرها إذا كنت صادق الوعد بالحفاظ على القيم الأمريكية.
مبعوث القيم الأمريكية يسعى بقضه وقضيضه إلى حماية حقوق الإنسان إذا كانت في صالح مصالحه الاستراتيجية، يبتز بها «أصدقاء الأمس» لتشغيل مصانعه بأموال عربيةكما فعل «ترامب».. لا يختلفان، الابتزاز الأمريكى العابر للبحار مفضوح فضيحة الإبل في الصحراء العربية.
يا سيد بلينكين، لا تُحدّثنى عن قيم أمريكية، حدّثنى عن المصالح الأمريكية التي تُسَيِّر القيم الأمريكية، معلوم المصالح الأمريكية أولًا، القيم مضروبة في خلاط المصالح، والمصالح تتصالح كما يقولون.
ولا تستعرض علينا، ورمم زجاج بيتك أولًا قبل أن تقذف الأراضى السورية بالطائرات المُسيّرة عن بعد.. وتذكر معنا، ومستعدون للترجمة قول طيب الذكر «حافظ إبراهيم» شاعر النيل- عليه رحمة الله-: «يا ساكن البيت الزجاج هبِلتَ لا ترمِ الحصونا / أرأيت قبلك عاريًا يبغى نزال الدارعينا».
نقلا عن المصرى اليوم