يوسف سيدهم
لم أستغرب انفجار واقعة إساءة المذيع تامر أمين لأهالينا في صعيد مصر, ليس لأني أقلل من شأن ذلك التجاوز الصادم وما يحمله من إهانة, إنما لأني طالما صدمت بمثل تلك التجاوزات والسقطات من نفر ليس بالقليل ممن يقدمون البرامج التي يطلق عليها توك شو -وهو تعبير باللغة الإنجليزية ترجمته طريفة إذ تفضح واقعا مريضا عندنا وهو استعراض الكلام!!- فهذا الذي حدث ليس غير مسبوق وليس مقصورا علي تلك الواقعة التي نحن بصددها, وسبق أن وقفت حائرا أمام نماذج متعددة مماثلة متسائلا: أين الإعداد.. وأين الإخراج.. وأين الرقابة الذاتية من ذلك الانفلات الممنوح والمسموح به والمسكوت عنه للمذيع؟.. انفلات لم أعهده سواء بين قامات عظيمة اضطلعت بتقديم مثل هذه البرامج إبان العصر الذهبي للتليفزيون المصري أو بين قامات شهيرة التقيت بها في أكثر من فضائية أجنبية وعالمية حين دعيت للمشاركة في برامجها.
إن ما اختبرته خلال مشاركتي في برامج الـتوك شو المحترمة والملتزمة بالمعايير المهنية والحرفية الإعلامية عبر نحو عقدين من الزمان -2017/1997- وقبل أن أتخذ قرارا شخصيا بالعزوف عن تلك المشاركات, كان معايشة الجهد الضخم لفريق الإعداد المنوط به تحديد وتصميم محتويات وفقرات البرنامج, وذلك يشمل كتابة المادة الإعلامية سواء كانت خبرية أو تقريرية أو استقصائية أو حوارية, ووضع سيناريوهات تقديمها علي الشاشة بالتعاون مع فريق الإخراج, وتحديد المدي الزمني المكفول لكل فقرة, وحتي مناقشة الضيوف الذين يستضيفهم البرنامج في طبيعة إسهاماتهم في المادة الإعلامية التي تمت دعوتهم للمشاركة فيها… وذلك كله كان يفرز كما غير قليل من أوراق الإعداد التي اشتهرت باسم سكريبت والتي كان مقدم البرنامج يحمل نسخة منها أمام الكاميرا بينما يحمل كل من المعد والمخرج نسخا أخري منها لتمثل تلك الأوراق مواصفات الوجبة الإعلامية التي تم إعدادها وطهيها بواسطة فريق العمل, وما علي مقدم البرنامج سوي تقديمها دون تصرف أو خروج عن النص أو اجتهاد… وكان مما يلفت نظري خلال مشاركتي في تلك البرامج أنه بينما كنت أنا الضيف أخضع لتثبيت وحدات الميكروفون الخاصة بتسجيل الصوت في طيات ملابسي, كان مقدم البرنامج يتم تجهيزه بميكروفونات مماثلة علاوة علي القطعة الأكثر أهمية وهي وحدة سماعة الأذن إيربيس التي تعتبر حلقة الوصل بينه وبين غرفة التحكم كونترول روم أثناء التسجيل أو البث المباشر يتلقي من خلالها كافة التعليمات والملاحظات ومؤشرات ضبط الوقت حتي يلتزم بها لخروج البرنامج كما تم التخطيط له تماما.
شرفت بلقاء نماذج مرموقة من مقدمي البرامج -مصريين وأجانب- واختبرت مدي جديتهم في دراسة الـسكريبت ومراجعته قبل التسجيل أو البث المباشر وحرصهم علي الالتزام الصارم بالسيناريو المعد للبرنامج وثقتهم المستمدة من خبراتهم السابقة علاوة علي شريان التواصل بينهم وبين فريق الإعداد والإخراج… الغريب أن أحدا منهم -وأكرر سواء كانوا مصريين أو أجانب.. عبر فضائيات مصرية وأجنبية- لم يحاول أن يستعرض قدرات خاصة لديه بالخروج عن النص أو بالتعبير عن آرائه الخاصة أو بالاستخفاف أو التطاول أو إقحام ذاته علي المضمون… كان كل هؤلاء وأولئك المقدمين المرموقين يستمدون براعتهم من تنفيذهم لمحتوي الحلقة وإدارتهم للحوار دون أن يشعر المتلقي بوجودهم… أتعرفون لماذا؟… لأنه لم تكن قد اقتحمت الأداء الإعلامي بعد معايير غريبة مؤسفة فرضت نفسها مؤخرا وتركت مسكوتا عنها تستفحل حتي باتت سمات غالبة وثابتة اختطفت تلك البرامج ومنها: حرية المذيع بلا قيود… وتكرار مقاطعته لضيوف البرنامج… ووصايته علي آرائهم… وتنصيب نفسه مرجعية تتصادم من خلالها آراؤه الشخصية مع آراء المتخصصين… هذا غير المنغصات الأخري من هيمنة الفقرات الإعلانية علي سياق البرنامج بشكل مستفز ومتكرر… وتلك قضية أخري يتحتم إعادة النظر فيها, فبعد أن كان الأصل في الفقرات الإعلانية أنها تشغل مساحة بين البرامج أصبح التطور والحداثة (!!) في اقتحامها وقت البرامج بلا ضابط أو معيار يحترم المتلقي إنما استسلام تام لسطوة التمويل والربح القادم من خلال تلك الإعلانات.
وأعود وأقول: نحن لسنا أمام واقعة متفردة تلك التي سقط فيها المذيع تامر أمين والتي فجرت موجات غضب واحتجاج عارمة عمت الجمهور وكتاب الرأي ومنابر الإعلام وأسفرت عن تصدي المجلس الأعلي لتنظيم الإعلام للواقعة واستدعائه المذيع للتحقيق معه مما أسفر عن إيقافه عن العمل لمدة شهرين وتغريم القناة المسئولة عن البرنامج مع إحالة الشكاوي المقدمة ضد الواقعة إلي النائب العام… لكن مع التقدير لتصدي المجلس الأعلي لتنظيم الإعلام لذلك التجاوز, تظل الحاجة ماسة لترسيخ آليات العمل والانضباط والرقابة والمساءلة علي سائر الفضائيات وبرامج التوك شو وأباطرتها الذين يتصرفون وكأن القنوات باعت لهم بوتيكات خاصة يفعلون بها ومن خلالها كل ما يحلو لهم… ويأتي في صدارة هذه الآليات إحياء وتفعيل أدوار المعد والمخرج والرقابة الذاتية… وتحجيم تعالي وسطوة مقدم البرنامج وادعائه المعرفة وامتلاك الحقيقة!!