عاطف بشاي
برع كاتبنا الكبير «نجيب محفوظ» فى رسم شخصيات روايته بأبعادها النفسية والاجتماعية والجسمانية وربطها بعنصرى المكان والزمان فيما يسمى بفن «الزمكانية»... وهو ينطلق من خلال ذلك من الخاص إلى العام لتصبح تلك الشخصيات بتنوعها الكبير وسماتها المتعددة واختلاف تركيباتها الطبقية وتوجهاتها انعكاساً لاتجاهات سياسية وأيديولوجية وأحوال مجتمعات متباينة فى أزمنة مختلفة.. فمثلاً الروايات التى نشرت فى النصف الأول من الستينيات تميزت فيها شخصيات «سعيد مهران» فى «اللص والكلاب» و«عيسى الدباغ» فى «السمان والخريف» و«عمر الحمزاوى» فى «الشحاذ» و«أنيس زكى» فى «ثرثرة فوق النيل» و«سرحان البحيرى» فى «ميرامار».. وهى نماذج التقطها «نجيب محفوظ» من مجتمع «يوليو» فى مرحلة ما قبل الهزيمة وما بعدها واستطاع من خلالها أن يوثق لمرحلة تاريخية مهمة من مراحل حياة وطن ومصير أمة.. وكذلك كان حال رواياته فى الثلاثينيات مثل «عبث الأقدار» و«كفاح طيبة».. والأربعينيات مثل «خان الخليلى» و«القاهرة الجديدة» و«زقاق المدق» و«بداية ونهاية» والخمسينيات مثل «الثلاثية» و«أولاد حارتنا»..
وقد نجح الكثير من النقاد الكبار فى الإبحار فى زخم وثراء تلك الشخصيات بالرصد والتحليل والرؤى النقدية المختلفة.. لكنى عند إعادة قراءة معظم روايات أستاذنا العظيم استلفتتنى شخصية لم تحظ بالاهتمام الوافر رغم تميزها البديع وتفردها وبراعة سبر أغوارها النفسية العميقة وبلاغة بيانها الممتع وقدرة «نجيب محفوظ» على رصد انعكاس فترتها الزمنية على سلوك ومصائر الشخصيات.. إنها شخصية «كمال» فى رواية «قصر الشوق».. وهو الابن الأصغر «للسيد أحمد عبدالجواد» الذى تتناوله الرواية كشاب مثقف يدرس فى مدرسة المعلمين العليا ويهيم غراماً بـ«عايدة» ابنة الذوات التى تنتمى لطبقة الباشوات فى ذلك العصر.. وتتضح من خلال السرد نزعته الرومانسية فى الحياة والفن.. فهو يحبها بجماع مشاعره لكنه لا يعرف إذا كانت تبادله تلك المشاعر أم لا.. ويؤكد ذلك فى مخاطبة ذاته الحائرة.
هل يمكن أن تتخيلها مسهدة طريحة حب وجوى؟! ما أبعد ذلك عن خوارق الظنون.. وفى هيامه الشاعرى يؤكد لنفسه هدف الرومانسى الذى ينحصر فى الاكتفاء بحبه لها فتسعة أعشار الحب- التى برح عليها أباطرة الرومانسيون- تكمن فى المحب وليس المحبوب «إنها فوق الحب ما دام الحب نقصاً لا يدرك الكمال إلا بالحبيب.. حسبك أن تحب.. حسبك منظرها الذى يشعشع بالنور روحك وأنغام نبراتها التى تسكر بالترطيب جوارحك.. من المعبودة ينبثق نور تتبدى فيه الكائنات خلفاً جديداً.. الياسمين واللبلاب من بعد صمت يتناجيان».. وهو من بعد صبره الطويل.. يقرر فى لهفة العاشق على الاعتراف لها بوله محاولاً سبر حقيقة مشاعرها تجاهه. ويبرر صبره الطويل قبل الشروع فى الاعتراف بخوفه أن يقطع ما بينه وبينها من مودة وأن تطرده من فردوسها..
وعندما يصطدم بحقيقة أنها لا تبادله الحب.. بل تسخر منه.. يمضى فى رحلة العذاب المضنية.. وهى رحلة يسعى إليها «الرومانسيون» ويستعذبون من خلالها بالألم المازوكى ويرحبون به.. ويعيشون كل لحظاته باستمتاع مرضى رغم وحشة الهجر وقسوة النبذ.. والإحساس بالكرامة المهدرة.. «هى والألم لفظان لمعنى واحد فينبغى أن تحب الألم وأن تطرب للهزيمة منذ اليوم».
ينفرد بنفسه فى هدأة الليل فيباح اللاألم والهذيان والدموع يسكبها وهو يفخر بأن حبه لها- سواء رحبت به أو رفضته- لا نظير له.. إن موقفه يشبه موقف كبار الرومانسيين من الأدباء والشعراء.. إنه تلميذ صغير للمنفلوطى وصديق محب لـ«رامى» الذى يعبر عن ألم الوجد والفراق: «سهران لوحدى أناجى طيفك السارى/ اسبح فى وجدى ودمعى على الخدود جارى».
إنه يرى فى وحشة الاكتئاب الذى يعانيه أن الحياة ما هى إلا لحظات متصلة من الألم المخلخل بالجنون وأن خروجها من حياته كمحبوبة كخروج العمود الفقرى من الجسم الإنسانى..
لكن «نجيب محفوظ» لا يتوقف فى طرحه لقصة الحب تلك القصيرة العنيفة التى صهرت بطل الرواية عند معاناة «الألم» والعذاب بل أضاف إلى تأملات الشخصية مشاعر الحيرة والتساؤل.. ما الحب؟! ما البغض؟!.. ما الجمال؟!.. ما القبح؟!.. ما المرأة؟!.. ما الرجل؟!.. أين الحقيقة؟!..
إنه لا يقتصر على التحليل النفسى لشخصية «الرومانسى» ومعنى «الرومانسية» ولكنه كعادته- فى كل رواياته- ينطلق من خلال الخاص إلى العام.. والمحدود إلى اللامحدود.. ليطرح رؤى فلسفية عميقة عن معنى الحياة.. وعبث الوجود الإنسانى.
Atef.beshay@windowslive.com
نثلا عن المصرى اليوم