فاطمة ناعوت
بعد واقعة التحرّش الأخيرة بطفلة المعادى على يد أحد الأشقياء، حاولتُ أن أتخيّل مدى رعب كلّ أمٍّ لديها طفلة. أوقنُ أن الهلعَ يسكنُ الآن كلَّ بيت مصرى يضمُّ بين جدرانه طفلةً، خوفًا على براءتها من الخدش والعبث. براءةُ الأطفال هى اللؤلؤةُ المُشعّة التى ننهلُ من عذوبتها فى قصائد الشعراء ولوحات التشكيليين وحكايانا وأسمارنا وطرائفنا. ولأنها حجرٌ كريم هشٌّ وسريع الزوال، نحاول أن نحمى أطفالنا من شظايا الواقع التى تجرحُ تلك الجوهرة قبل أوان انطفائها. نحاولُ إطالة زمن البراءة فى أرواح أطفالنا قدر الإمكان، لكى يحيوا حياةً صحيّة مبهجة، قبل نضوج وعيهم وتراكم طبقات المعارف فوق سطح تلك الجوهرة النقية حتى يخبو بريقُها، حين يصيرُ الصغارُ كبارًا، يعرفون عن الواقع ما كنّا نخفيه عنهم؛ لكيلا ينطفئ البريقُ قبل الأوان.
بعض الرخصاء مرضى البيدوفيليا (عشق الأطفال الجسدى) يُشوّهون جوهرة البراءة فى لحظة (بفعلٍ)؛ حين يتحرّشون بطفلة أو طفل؛ كما فعل متحرشُ المعادى وآلافٌ غيره لم تكشفهم كاميرا سيدة مثقفة مثل «أوجينى أسامة»، التى فضحت المتحرش صوتًا وصورة. وبعضُهم يفعلون ذلك (بكلمةٍ) خسيسة غير ناضجة، حين يظهر شخصٌ على شاشة أو صفحة سوشيال ميديا قائلا إن (الطفلةَ يجوز نكاحُها، إن كانت «مربربة» تتحمل الوطء)! حين يسمعُ الأطفالُ هذه الكلمات، لن يفهموا المعنى، لكنهم سوف يستنتجون من أحاديث الكبار أن النكاحَ هو الزواج، والوطء هو انسحاقُ جسد طفلة تحت ثِقَل رجل ضخم. تتكونُ فى مخيلة الأطفال صورةٌ مرعبة من حكايا الساحرات الشريرات اللواتى يخطفن البنات ويقدّمنهن للوحش المخيف. لكنّ مع هذه الصورة البشعة، ستستقرُّ عدةُ مفاهيمَ مخيفة فى ذهن كلٍّ من: الطفلة، الطفل، والرجال.
أما الطفلةُ فسوف تنجرحُ براءتُها وتدرك أن شرًّا مرعبًا ينتظرها فى مقبل الأيام، فترخُصُ قيمةُ جسدها فى وعيها الصغير. وأما الطفلُ فسوف ينظرُ إلى شقيقته وزميلته فى الفصل بنظرة دونية، ويتنامى داخله شعورٌ يكبرُ مع الأيام بأن البنات خُلقن ليكُنّ لُعبةَ لهوٍ وعبث لأجساد الذكور. وأما الرجالُ غير الأسوياء، فسوف تُريحُ تلك الفتوى ضمائرَهم، فيوقنون أن العبثَ بجسد أى طفلة أمرٌ عادى لا تهتزُّ له الجبالُ. يُقرّه الشرعُ إن كان بورقة زواج. ولا تنهدمُ به أركانُ المجتمع إن كان دون ورقة؛ مادام فى الخفاء بعيدًا عن عيون الناس، فى مدخل عمارة أو شقة مهجورة أو حافلة ركّاب!.
انتفضَ المجتمعُ المصرىّ بكامله بعد واقعة تحرش «ذَكَرٍ» رخيص بطفلة تبيعُ المناديل، فى مدخل عمارة بحى المعادى. هذه الانتفاضةُ لها دلالةٌ طيبة تشى بأن ضمير الوعى الجمعى يقظٌ وسليمٌ. وتلك نقطةٌ بيضاءُ فى اللوحة السوداء الكابية. النقطةُ البيضاءُ الأخرى صنعها ترتيبُ الله الذى شاء أن يفضح شخصًا من أولئك الذين يتّخذون «الدينَ» ستارًا يخفون خلفه أوساخَهم. المتحرشُ المجرم صفحته الشخصية حاشدة بآيات القرآن الكريم، وصورٍ التقطها لنفسه فى الحرم الشريف، لكى يوهمَ الناسَ أنه تقىٌّ ورعٌ يخافُ الله. وربما بالفعل يقيمُ فروضَ الله من صلاة وصيام، ولكنه من أولئك الذين صدّقوا قول «أدعياء الدين» الذين يفتون بشرعية «نكاح الطفلة المربربة التى تتحمّل الوطء». فإن كان لا يستطيع الزواجَ الشرعى بورقة ومأذون، فلا بأس أن يعبثَ بجسدها الصغير بعيدًا عن عيون الناس!.
ولأن «براءة الأطفال» قيمةٌ شديدةُ الخطورة لبناء مجتمع صحيّ غير متهدّم الأركان، أنشأ العالمُ منظمة «اليونيسيف» UNICEF لحماية الطفل، وأعلنت الأممُ المتحدة اتفاقية حقوق الطفل، وإعلان جنيف عام ١٩٢٤، وفى جميع دساتير العالم ثمّة مادة تشير إلى حقوق الطفل فى المجتمع. وفى الدستور المصرى الجديد تنصُّ المادة (٨٠) على (التزام الدولة برعاية الطفل وحمايته من جميع أشكال العنف والإساءة وسوء المعاملة والاستغلال الجنسى والتجارى.)، ونتساءلُ هنا: هل الإساءةُ للطفل تنحصرُ فقط فى التحرش الجسدى «بالفعل»، أم كذلك «بالقول»؟ هل يحاكمُ القانونُ المتحرشَ (بذات الفعل)، ويتركُ من أجاز انتهاكَ جسد الطفلة (بالقول)؟!
المجتمعُ الذى أشار بإصبع غاضب فى وجه المتحرش الرخيص لابد كذلك أن يشير بإصبع أشدّ غضبًا فى وجه أدعياء يزعمون أنهم رجالُ دين، ويفتون بشرعية زواج الصغيرة! ففضلا عمّا بأقوالهم المريضة تلك من هتك لبراءة الأطفال وتقويض أركان المجتمع، إلا أنهم كذلك يُخرجون «الزواج» من مضمونه «المقدس» بوصفه «السكن والرحمة» إلى كونه مجرد شراء جسد للهو والعبث والوطء، ويُخرج العلاقة الحميمة بين الرجل والمرأة من إطار المشاعر الراقية إلى عتمة الشهوات الرخيصة؛ ومن طرف واحد «يستمتع»، بينما الطرفُ الآخر يئن ويتألم وينزف ويتوجّع وتتدمر حواسُّه ومشاعره!.
«الدينُ لله والوطنُ لمَن يُكرمُ أطفالَ الوطن».
نقلا عن المصري اليوم