أمام جثث محترقة بمستشفى السلام، وقف هاني عبدالحميد تغالبه الدموع، وصوت بكائه يخترق الآذان. يمسح الدمع عن عينيه، عله يميز ابنه معاذ، الذي كان يحتفل بمولودته ياسمين منذ ستة شهور، أو يميز أحمد ومحمود ابني أخيه، لكن بلا جدوى. يملأ الدمع عينيه من جديد، بينما يربت آخرون على كتفه، فيخبرهم وكله حسرة «أشوف جثثهم طيب وأحضنهم». والـ3 قد يكونون ضمن 12 جثمانًا مجهول الهوية وصلت في الظهيرة إلى مستشفى السلام، بعد احتراق مصنع للملابس بالعبور صباح اليوم.
منذ شهور، قدم معاذ ذو الـ21 عامًا إلى مصنع للملابس بالعبور، يعمل فيه طيلة النهار، بعدما رشح له والده ذلك العمل، واصطحب الشاب معه أبناء عمه، أحمد ومحمود، ولم يكن لدى أحدهم معرفة بما ستؤول إليه الأحداث، وأنهم سيصبحون ضحايا في ذلك الحريق الذي أودى بحياة 24 شخصًا، وخلف عشرات المصابين: «لسة متجوز وجايب بنت، مش مصدق إنه راح مني» قالها والد معاذ وهو يقف داخل المستشفى، باحثًا عن معلومة قد تقوده إلى طفله.
عن يمينه وشماله، عشرات ممن لهم مفقودون في الحادث، يغلبهم جميعًا البكاء، وتتشح نساؤهم بالسواد، وكلهم على أمل التعرف على جثامين ذويهم، لكن احتراق أجسادهم يحول دون ذلك: «قرايبي كلهم في كل حتة، اللي راح الخانكة، واللي راح القاهرة الجديدة، وبلبيس، ووصلنا هنا ولسه بندور». يحكي الأب، بينما كان شقيقه طه يجلس على الأرض دون حديث مع أحد، يقلب نظره بين الحين والآخر إلى السماء، ثم الأرض، يبكي ثم يمسح دموعه، ويخبر الواقفين إلى جواره «مش هروح إلا بعيالي، عايشين أو ميتين».
تعيش أسرة هاني وطه في مركز مشتول السوق بمحافظة الشرقية، وكانوا جميعًا يبحثون في كل مكان عن معاذ وأحمد ومحمود، والحزن يعتصر قلوبهم: «الصبح زمايلي كلموني قالولي المصنع اتحرق، جريت على هناك الأمن قالنا نقلنا كل الجثث والمصابين» قالها هاني وهو ينظر إلى صور ابنه الذي جعلها خلفية لشاشة هاتفه المحمول، ثم يبكي طويلا قبل العودة للحديث: «ورحنا أول حاجة مستشفى الخانكة، بصيت على الجثث لكن معرفتهمش».
بين الجثث يبحث الرجل عن علامة مميزة، خاتم أو ساعة، أو هاتف بجيب أحدهم، لكن الأمر أصعب ما يكون، فالتجربة قاسية، والملامح مختفية، ولا يطغى على المشهد سوى الاحتراق: «في واحد اتعرف على ابنه من موبايله وخاتم معاه، لكن أنا مش عارف أشوف لا معاذ ولا ولاد أخويا».
كان للثلاثة شباب أحلامهم، تزوج معاذ وأنجب طفلة، وأنهى أحمد خدمته العسكرية وتزوج، وكان محمود يستعد للالتحاق بالخدمة العسكرية، لكن الحادث طوى كل ذلك. وترك أسرهم في رحلة بحث عنهم، قد تنتهي خلال ساعات بإجراء تحليل الحمض النووي، لتحديد هوياتهم.