مفيد فوزي
لست كاتبًا متجهمًا أميل إلى الشكوى والضجر والنواح. لكنى أحب الكتابات الساخرة وتنطلق قذائفها من قلم موهوب. والكاتب والسياسى والفنان يوصلون رسالة عبر حروف متشابكة. وقد تعلمت من «هيكل» فن «الصياغة»، وكنت أقلده فى البداية ثم أقلعت عن هذه العادة حين صار لقلمى كينونة. وقبل أن أحترف الصحافة كنت معجبًا بكتابات محمد التابعى، فهو مزيج من الاحترام والسخرية، ورغم غرابة المعادلة كان يستهوينى أسلوبه. لكن الأستاذ هيكل بصياغاته الساحرة خطف اهتمامى بعد أن التهمت فى ساعات تحقيقه الصحفى الفريد «إيران فوق بركان». حين اقتربت من أحمد بهاء الدين تعلمت فن «المباشرة»، فهو يدخل فى الموضوع مباشرة دون لف أو دوران ولا يحفل بالصياغة ولا بهذه المحسنات البديعية فى اللغة. ويخيل لك أن أحمد بهاء الدين مولود فى ألمانيا من فرط المباشرة ودقة المعلومة وسلامة الرؤية وصواب التفكير. هذا الكاتب المباشر قرأت له مقالًا يقدم به الكاتبة السورية كوليت خورى، وكم كان عاطفيًا وهو يكتب عن «أيام معه» قصة كوليت خورى التى أحدثت ضجة بصدقها فى البوح.
وقد توقفت عند «المباشرة» فى كتابات بهاء، وهذه «العاطفية» فى تناوله لرواية. وتساءلت: هل من تناقض؟ واكتشفت أن الكاتب، كالممثل، يعيش الدور بإتقان وإن كان هناك مثل صينى يقول: «لا شىء أصعب من الكتابة إلا صيد التماسيح!»، وربما أسهبت فى الكلام عن المدارس الصحفية «التابعى، هيكل، بهاء» لكنى لا أغفل «مدرسة التشويق مصطفى أمين». وأعتقد أن الكاتب هو «رأى ورؤية»، وحين أقول تعلمت من هيكل «فن الصياغة» ومن بهاء «فن المباشرة» فلا أقصد أنى تلقيت دروسًا، بل إنى أحببت «التوليفة» لكاتب مثل هيكل وفى قامته يطوع الأسلوب ليعبر عن فكره، ولكاتب فى حجم بهاء يستخدم «المباشرة» للتثقيف والتنوير بأسلوب سهل مفهوم لا يتعالى على قارئ. والمتابعة لكتابات هؤلاء تجعلنى أقترب من طريقة الكاتب وعالمه وأفقه الذهنى. فالخيال جزء من ذهنية هيكل، والواقع سمة ذهن بهاء. وكلاهما يحرصان على «المحتوى»، لإيصاله للقارئ. وعندما أتطرق للمحتوى، فلابد أن أدرك أن «العقل» لعب دور البطولة. نعم، العقلانية هى رؤية بعقل. هى أفق له حدود. هى مضمون عاقل. هى إضاءة لجوانب خافتة الضوء ربما مظلمة. هى تسليط كشاف الاستنارة على عفونة ذهنية. هى تنوير ما هو مظلم. العقلانية هى تجليات العقل أمام قضية يراد اختراقها ربما لأنه مسكوت عنها. ولذلك، يعتبر فتح شباك الحوار ضرورة للتنفس، وتعتبر المعارضة من منصة وطنية أكثر ضرورة لنقضى على الهمس والفحيح «لغة الثعابين».
■ ■ ■
كان يوسف إدريس يقول لى إننا نعانى من «فقر الفكر» أكثر مما نعانى من «فكر الفقر» وكان يضحك ويقول: هات ميكروفونك اللاذع وعدساتك المتربصة وابدأ حوارك الذى لا نستأذن فيه ضيوفك. اسألنى ولا تتوقف عن «عقول مثبتة فى الرؤوس لكنها عاطلة». اسألنى عن «عقلانية مختفية وفهلوة على السطح». اسألنى عن «غرامنا بالجدل العقيم الذى لا يروى ظمأ العقل للفهم». وقلت ليوسف إدريس قل لى: ما سر فقر الفكر؟ قال بطريقته فى استقبال شىء يريده: كنت أعرف أنه لن يفوتك سؤال أسباب فقر الفكر؟ نعم إنها مشغولة بالجدل فى التفاصيل وليس جوهر القضايا. قلت: ولماذا التفاصيل؟ ضحك يوسف إدريس ضحكته المعهودة وقال: لأن التفاصيل تستغرق الوقت، والوقت عندنا رخيص. وجوهر القضايا واضح كالشمس ونحتاج شجاعة المواجهة.
أراد يوسف إدريس أن يقول لى إن كل شىء جاهز على مائدة الحوار. كل الأطباق، الجدل، المغالطة، التهوين، المبالغة، التضخيم، الهرطقة، وقاطعته: ما عدا العقلانية. قال لى: أصبت يا سيدى. عندما أتساءل: ولماذا تغيب العقلانية؟ أكتشف لأنها الحقيقة. لأنها لا تحتاج لجدل وغوغائية. وأنا لا أخشى الجدل لأنه «أصوات فى الهواء» لكنى أخشى الغوغائية لأنها «عوار فى العقول»، فإذا ما تناولنا أمرًا له أهميته تاه المضمون فى فراغ، وربما ارتدت الحقيقة أثوابًا غير ثوبها وضاعت ملامحها وثوابتها وأهدرنا وقتًا للتعرف عليها. وأحيانًا يكون «حلول المشكلات.. داخلها ونتعامى عنها»، تسألنى: ما السبب؟ أقول لك: إننا مولعون بلذة الاكتشاف أن العقلانية هى الدواء العصرى للمشكلات المزمنة. وليس فى الأمر حلول غير تقليدية، بل إن «صواب» الحلول التقليدية يمنحها رتبة أنها غير تقليدية، فقط لو أديرت بعقل ومهارة، نحن نفتقد «المهارة» فى العقول، نفتقد إدارة العقل.. بعقل، ونفتقد طلة الفطنة وجسارة التجربة، الخطأ وارد، وإعادة التقييم فريضة.
■ ■ ■
الجسارة فى الفكر شجاعة، والعودة إلى الحق فضيلة. والخوف من الخسارة يبطل مفعولها ويصيبها بالعجز والخذلان. لقد علمتنا التجربة الصعبة فى الوباء عابر القارات أن البحث العلمى على أولويات المكان والمكانة، علمتنا أن نجوم الكرة ليسوا أكثر أهمية من العلماء. علمتنا أن تقدير وتشجيع العلماء أكثر ضرورة من مكافأة اللاعبين الذين سددوا «الأجوان» فى الشباك.. هكذا «العقلانية» فى التفكير والسلامة فى التوجه والبصيرة حقًا، نحن فى حاجة إلى «ثقافة الانتباه»، كما نبهنا الرئيس السيسى.
1- الانتباه للمستقبل الذى نصنعه نحن من الآن وليس عيب دولة. وثقافة «الإحاطة» للناس تقضى على الإشاعات.
2- الانتباه لمواطنة غير منقوصة، نؤدى أدوارنا بضمير صاحٍ لا بعقل كسول وعدم انتماء صادق ونفسية تميل للتشكيك.
3- الانتباه للعقلانية، فهى طوق النجاة من الغفلة والانحدار والسقوط. بالعقلانية نهزم التراخى والاتكالية.
4- ثقافة الانتباه هى تجليات العقلانية فى فهم المشكلات واختراقها بالعلم، لنحلق كالنسور فى فضاء المستقبل.
نقلا عن المصري اليوم