"" بقلم المهندس باسل قس نصر الله، مستشار مفتي سورية

 
عِندما توفيت والدتي منذ عشرة أعوام، وكان موتها مفاجئاً، لم أزرف دمعة واحدة، ليس لأني لا أحبها، بل لأنني أعرف تماماً أن كلّ الحبّ الذي في الدموع لن يحيي الموتى.
 
بدأ شريط الذكريات يمر أمامي منذ طفولتي إلى هاتفها الأخير، قبل سويعات من موتها تؤنبني لأنني لا أزورها، حتى أنني لم أنتبه لذكرى وفاتها لولا أن ذكّرني أخي "سامر" بذلك.
 
عادت الذكريات تخترق عقلي، عادت صور طفولتي وشقاوتي تَطوف في فضاءِ مخيّلتي.
 
كل الأماكن من طفولتي وأيام الصيف في "كَسَب" ومسبح "أفاميا" إلى طفولتي المشاكسة بمدرسة "حديقة البراعم" في اللاذقية وغيرها.
 
عشرة أعوام على وفاتها وجنازتها وكانها البارحة.
 
حضر الكثير من الناس للتعزية، ولكنني سأقف عند نقاط قليلة تُمثِّل حالة الحياة السورية المطمئنة قبل هذا السيل الجارف من الجنون والحرائق التي بدأت منذ ذلك الحين.
 
كانَ العزاء في صالة كنيسة بحلب، ومن أوائل المعزين لي، لم يكن رجال الدين المسيحي فقط، بل سماحة مفتي عام سورية الشيخ احمد حسون، قال لي : "أنا لم آت لأنك مستشارٌ لي، بل لأنك أخي ووالدتكَ والدتي".
 
حضرَ العزاء أيضا مجموعة كبيرة من رجال العلم الإسلامي ورجال الدين المسيحي، وبكلّ فئاتهم، وقد تكلموا بكلام دل على ما تمتاز به هذه الأرض من حضارةٍ عظيمة.
 
لن أتكلم عن رجال العلم الإسلامي والمسيحي والشخصيات الأخرى التي اتصلت بي من أصقاع شتى في العالم بل سأنقل صورة مصغرة عن الحياة المشتركة التي تنعم بها سورية.
 
في يوم العزاء الأخير حضرَ من مدينة "سلمية" وفدٌ كبيرٌ يمثل المجلس الوطني الإسلامي الشيعي الإسماعيلي في سورية، وألقى عضوٌ من الوفدِ كلمة معزية ثم قرأ الفاتحة على روحها، وقام الجميع مسلمين ومسيحيين بالوقوف، فمنهم من صلّى الفاتحة الإسلامية ومنهم من صلّى الصلاة الربانية المسيحية، .... وأين؟؟؟؟؟؟ في إحدى صالة الكنيسة بحلب.
 
في سورية فقط يتمّ صنع الحياة المشتركة، بتلاحمٍ، صَدَقَ من قال إن سورية تملك أهم مقوماته.
 
في سورية فقط يقوم بتعزية المسيحي، رجال العلم الإسلامي قبل رجال الدين المسيحي.
 
وفي سورية فقط نعلم - وقبل أي بلدٍ آخر بدأ يُظهر التآخي - أن المواطنة تجمعنا، وليس الجامع أو الكنيسة إلا مُرشدين لنا.
 
وفي سورية فقط، نُمسك المواطن كزهرة ونضعها في مزهريةِ الوطن.
 
رحمكم الله أيها الوالد والوالدة لأنكم أوجدتموني في سورية، لأنه في سورية - ومهما ساءت ظروفها - فقط فهمت كيف يكون الدين لله وهذا الوطن هو للجميع.
 
أقول "مهما ساءت ظروف سورية" التي أحبها كأمي والتي لا اريد ان افقدها كما فقدتُ أمي
 
اللهم اشهد أني بلغت 
صورة امي وانا واخي الاصغر سامر