يوسف زيدان
بالأمس، استوقفني في الطريق شابٌ نابه الملامح، تفور من قاع عينيه الواسعتين تساؤلات عميقة عن الصلة بين الواقع والخيال، وعن المزج بين قسميّ الدراما "التراجيديا / الكوميديا"، وعن الكوميديا السوداء .. فأجبته بما حضرني
وقبل قليل، رأيت في غمرة الأخبار اليومية نبأ يعد أنموذجًا للكوميديا السوداء، هو عودة المدعو إعلاميًا "الشيخ ميزو"واسمه الفعلي "محمد عبد الله نصر" إلى السجن، بحكم نهائيٍّ باتٍ من محكمة النقض تأييدًا لحكمٍ سابق بسجنه لأنه تجرّأ على التفكير، واجتهد برأيه في مسألة شرعية هي قطع يد السارق، مُرجِّحًا أن يكون معنى القطع هو إحداث الجرح، وليس البتر كما هو مشهور عند الجمهور
وأنا لا أعرف الشيخ (السابق) محمد عبد الله نصر بشكلٍ شخصي، ولم ألتق به إلا بطريق الصدفة مرةً واحدة، في المقهى القاهري البسيط الذي كنت أجلس فيه كثيرًا مع الروائي الشهير "بهاء طاهر" لأنه يجاور المنزلين المتجاورين اللذين نسكن فيهما بالزمالك .. ولكنني منذ ظهور الشيخ "ميزو" على الملأ، أراه واحدًا من تجليات الكوميديا السوداء، فهو معمَّم من خريجي الأزهر يمسُّ المقدس بشكلٍ اجتهاديٍّ ذي طابع مستهين بالمستقر في الأذهان، وبالمتفق عليه بين المشايخ، وهو يفعل ذلك أحيانًا بشكل هزليٍّ .. فلما ضاق عليه الخناق وصدرت ضده أحكامٌ بالسجن عقابًا له على اجتهاده، ودخل السجن فعلًا ثم أُفرج عنه لحين البتّ في تلك الأحكام من خلال أعلى هيئة قضائية في مصر "محكمة النقض".. تتالت من بعد ذلك فصول كوميدياه السوداء المعتمة المضحكة ضحكًا كالبكاء، إذ طرح عنه الثياب الأزهرية وإهاب المجتهد، وبدأ يبيع السمك وينادي المشترين بعبارات فيها مفردات : طازج ، رخيص ، توصيل طلبات للمنازل .. ثم افتتح مطعمًا لتقديم وجبات السمك، وفشل فجعله مطعمًا لتقديم اللحوم مطبوخة رخيصة الثمن، وفشل فانزوى وآوى إلى الظل مترقبًا حكم محكمة النقض
وقبل ساعات صدر الحكم بعودته إلى السجن، وجاء في حيثيات الحكم ومسوغاته ما نصُّه بالحرف الواحد : "المتهم في بداية حديثه، يصف أن هناك كارثة اكتشفها، بأنه لا يوجد بتر ليد السارق في القرآن، وأن القطع ليس المقصود به البتر، وبهذا الكلام والفعل من المتهم يفتح الباب للتطاول على أركان الإسلام وحدوده والتشكيك في تلك الحدود، ويفسر كل على حسب هواه"
والآن، لم يبق من فصول السوداوية في هذه الكوميديا الهزلية، إلا عودة الرجل إلى السجن وعودتنا إلى نمط تفكير العصور الوسطى الأوروبية (عصر الظلام) .. أو، حلٌّ أخير لا بديل له، هو أن يُصدر رئيس الجمهورية عفوًا عنه حفاظًا على صورة هذا البلد أمام العالمين
أرجو من الرئيس السيسي أن يُصدر فورًا هذا العفو