الكثيرون فى مصر رصدوا ما يجرى من أشكال التحالف بين جماعة الإخوان وبين تيارات متنوعة ممن ينتمون للفكر اليسارى، جرى ذلك بصورة واضحة بعد سقوط نظام الرئيس الأسبق حسنى مبارك فى عدد من محطات المرحلة الانتقالية، حينها برز هذا التحالف بأشكال متنوعة خلال الاستحقاقات الانتخابية، وغيرها من المواقف والأداءات السياسية التى بلورت نفسها لاحقاً على نحو أقرب للتكامل. بالعودة لتفاصيل هذه الأحداث يجعلنا نتذكر؛ كيف ساهمت تلك التحالفات فى انعطافات حادة لمسار العملية السياسية التى لم تكن قد استقرت بعد، ويكفى حجم التصويت لمرشحى الإخوان وغيرهم من تيارات الإسلام السياسى من كتل يسارية معتبرة لم تخجل من إعلانه، رغم ما صحب ذلك من غرابة لم تكن مفهومة ولا متوقعة حينها.
دفعت مصر ثمناً باهظاً جراء ما نتج عن هذا التحالف، لم ينقذها منه أو يقلص من خسائر هذه الفترة، سوى الإرادة الحقيقية التى تمثلت بداية فى ثورة 30 يونيو 2013، ثم ما جرى لاحقاً من تدشين لمسار سياسى بدا أنه قد قلص مساحات هذا التقارب، وإن لم يقض عليه تماماً حتى الآن. فلهذه الأجنحة اليسارية منطق يخصها وعقيدة رغم وضوح تشوهها جعلتها تصر على المضى قدماً فى الإيمان بأن هذا التحالف مع الإخوان قادر على صناعة مشهد مغاير لأحداث العنف والإرهاب المادى والمعنوى الذى تؤمن به الجماعة كعقيدة ثابتة. فى المقابل برع الإخوان دون شك فى التخفى عن هذا التوجه العقائدى فى ثورة يناير وما بعدها، لكن سرعان ما سقط هذا القناع بمجرد الوصول إلى السلطة، ومن ثم بعد الإطاحة بهم فى ثورة يونيو لتتكشف الجذور التى لم تتبدل يوماً وإن توارت لفترة بمنطق تكتيكى فقط. وتعود هذه الأجنحة اليسارية فى مسلكها المشوش إلى مفهوم صاغه المفكر ليون تروتسكى، حول تشكيل «جبهة متحدة» تحت منطق تكتيكى وفق شعار «السير منفردين والضرب معاً»، على اعتبار أن العمل مع قوى متناقضة ضمن جبهة واسعة قد يحقق لليسار أهدافه، بشرط الحفاظ على استقلالية البرنامج وممارسة الانضباط الداخلى بشكل صارم!
يرتكن البعض سريعاً إلى تحليل يفسر هذه الحالة الشاذة من التقارب بين اليسار وجماعة الإخوان، إلى رغبة التنظيم فى صبغ تحركاته المناهضة لمفهوم الدولة الوطنية، بصبغة مدنية ذات عقل منفتح يمكنها التحالف مع كل الأطياف المغايرة لعقيدتها. فى حين بدا أن الطرف الآخر من هذه العلاقة الآثمة هو الأكثر حرصاً على الاستفادة من التحالف مع التنظيم، رغم سابقة وصف غالبية الأجنحة اليسارية لهذه الجماعات المتأسلمة بالفاشية الكاملة. فاليسار بعد عقود من انحسار الأضواء وضيق مساحات الحركة بين الجماهير أمامه، هداه تفكيره إلى الارتماء تحت عباءة هذا الكيان الواسع، كى ينفذ من خلاله إلى فضاءات جديدة من المناصرين الذين ظلوا يغازلون أعين اليسار، ويسيل لعابه مع كل استحقاق انتخابى يخوضه الإسلاميون والإخوان بالأخص ويحصدون من خلاله الانتصار. لم يقتصر الأمر على الانتخابات بالطبع؛ فاليسار اعتبر مثلاً الثورة الإيرانية 1979 هى ثورة «مستضعفين» بمجرد إطلاق «الخومينى» لهذا الشعار، وأعطوا لها تأييداً مطلقاً رغم ما تكبده الحزب الشيوعى الإيرانى من جزاء سنمار بعد مشاركته المؤثرة فى الثورة على نظام الشاه. لذلك يظل هذا الجناح من اليسار يرى أن تشاركه مع مكونات الإسلام السياسى فى أى فعل جماهيرى حاشد، ضد سلطات الدولة وبنيتها المؤسسية هو بمثابة عمل تقدمى يجعل وصف هذه الحركات بـ«التقدمية» أمراً منطقياً، كما يحلو له إطلاقه أو الانخراط تحته وإن ظل مزيفاً بامتياز مثلما الحالة فى جماعة الإخوان التى تفخر بعقيدتها الأصولية.
اليوم هذه الظاهرة بدأت تلفت أنظار الكثير من دول العالم التى تمكن الإسلام السياسى من اختراقها، أو على الأقل يحظى بوجود مؤثر فيها كما هو الحال فى فرنسا التى أفاقت مؤخراً على تلك العلاقة الشاذة، التى صكت لها مصطلح «اليسار الإسلامى» فى إشارة إلى أجنحة اليسار التى تحالفت مع المتأسلمين. التوجس عبر عن نفسه فى حديث لوزيرة التعليم العالى الفرنسية عندما حذرت مؤخراً من اختراق هذا التوجه للجامعات وإضراره بقيم المجتمع، مطالبة بمراقبة هذا التحالف وتكثيف الدراسات حوله، معتبرة أن ذلك لن يكون معزولاً بحال عما يجرى فى الواقع العربى من اختراقات أكثر حدة واتساعاً. ورغم ما تلقته الوزيرة من لوم كبير وصل لحد مطالبتها بتقديم استقالتها على خلفية ما تتعرض له فرنسا من انتقادات، فيما يخص تفشى ظاهرة الإسلاموفوبيا ما بعد حادث قطع رأس المدرس صامويل باتى. لكن يظل المصطلح وحالة الترقب لما أطلق عليه اليسارية الإسلامية، حاضراً رغم اتهام الغرب بأنه يعد المروج الأكبر لهذا التقارب بل والمنظر له، باعتباره المساهم البارز فى خلق الجسور ما بين اليسار التنويرى التقدمى، صاحب الرؤى النقدية المعمقة للظواهر الاجتماعية والسياسية، وبين الانغلاق الراديكالى متمثلاً فى جماعات الإسلام السياسى، وعلى رأسهم جماعة الإخوان التى تتمتع بحرية ملحوظة فى البلدان الغربية.
ما أثار تلك الهواجس الآن؛ وجعلها تتجاوز الطرح الفكرى وتساؤلاته إلى البحث عن قواعد هذه الجسور، أن عديداً من الشواهد أكدت أن هناك تحالفات فى كثير من البلدان الأوروبية بالخصوص، باتت واقعاً يجرى خلف أبواب المكاتب المغلقة وفى زوايا البلدات النائية بعيداً عن أعين المراقبين، يجلس أطرافها معاً كى يضعوا خططاً لتحالفات انتخابية أو تحركات جماهيرية تستهدف الأنظمة الحالية بشكل مباشر، يمثل طرفاها المنتمين إلى اليسار المتطرف مع المتأسلمين الجاهزين لعقد أى صفقة. فى الوقت الذى تعود فيه الإدارة الأمريكية الجديدة التى تؤمن بأهمية هذا الجسر، مثلما كان الحال قبلاً فى إدارة باراك أوباما التى كان لها الإسهام الأكبر فى دعم أصحاب التوجهات اليسارية الراديكالية بمؤسسات معلوم علاقتها بجماعة الإخوان، وها هى الدائرة تعود من جديد رغم الانكشافات العديدة التى حملتها السنوات الماضية!
نقلا عن المصرى اليوم