حسام بدراوي
انظر حولى واتفكر فى أمهات هذا الجيل الذى نداوم على انتقادهِ، ونبكى على زماننا الذى مضى وذهب لحالهِ، فأرى حولى عكس ما يقال، ومعانى لا نتفكر فيها بروية على مستوى كل الطبقات الاجتماعية.
أرى حولى أمهات ترعى بيوتها، وتعيل أسرها، وتعمل بلا كلل صباحا ومساء، وتنفق، وتربى، وتحاور، وتذاكر، وتُعد لكل واحد من أسرتها، غذاءه وملابسه وكتبه، وتذهب لتمارين أولادها، ودروسهم الخصوصية، وتمارس وظيفتها فى نفس الوقت لتشارك فى الإنفاق على أسرتها. وهى نفسها التى تحمل وتلد وترضع وتسهر الليالى، يوما بعد يوما، ساعة بعد ساعة.
وهى نفسها، وفى كثير من الأحيان، منتهكة حقوقها وضحية ذكورية المجتمع الذى لا يقدرها حق قدرها.
أمهات هذا الجيل أبطال فى نظرى......
السيده الثانية:
انظر إلى ابنتى، كمثالٍ آخر،
وقد تتعجب أيها القارئ وأنا أقول لك إنها صارت مثلا أعلى لى......
المعتاد أن يكون الوالد هو المثل الأعلى والاستثناء هو ما أنقله إليكم.
طول عمرها وأنا أسميها «أفكارى السعيدة» لأنها إنسانة متفائلة، مبتسمة، جميله المظهر والمدخل. ثم وهى فى سن الثامنة والعشرين، ظهر لها مرض السكر وفى خلال شهور قليله توغل المرض وأصبح جسمها خاليا تماما من الأنسولين اللازم لحياتها ونشاطها وطاقتها، بكل ما يعنيه هذا المرض من احتياج لتغير مطلق لنوعية الحياة، والعلاج المستمر، والحقن والقياس، وتغيير شكل ونوعية الغذاء.
فجأة أصبحت ابنتى، وهى أم لثلاثة أطفال، وزوجة، وامرأة عاملة، فى احتياج لصياغة حياتها بشكل جديد.
رأيت ابنتى، بشبابها وعلمها ونضارتها تدخل مرحله لم تكن معدة لها نهائيا، وسط مسؤوليات حياتها التى تأخذها بجدية والتزام. ولأننا أسرة تقرأ وتناقش كل شىء فقد أصبحت معلوماتها عن مرض السكر على مستوى معلومات المتخصصين وقد يكون أكثر، ولأنى طبيب وأعلم أن نصف المعلومة أشد ضررا من الجهل فى المرض أحيانا، فقد أمددتها وأمدتها وسائل المعرفة المتاحة بقدر هائل من الوعى بما أصبحت عليه عندما تمكن من جسمها مرض مزمن سخيف عضال.
وأُضيف إلى وعيها، ومعارفها، تجاربها لوسائل العلاج المختلفة، وتطبيق القواعد الصارمة فى الغذاء، لمنع مضاعفات المرض وكيفية الحياة وهو يلازمها..
غيرت حياتها، بإرادة حديدية.
وفى خلال سنوات قليله تحكمت فى جسدها بالرياضه الى ان اصبحت قائده لآخرين غيرت عوايد طعامها الى طعام منظم، صحى، متكامل
ولم تتوقف عن التدريس للاطفال، فهى معلمة مرموقة، وتفعل ذلك وهى تلازم بناتها وتشجعهم ليمارسوا معها الرياضه، وتذهب معهم لممارسة الرياضة ولتدريب الموسيقى، وتراقب تعليمهم عن بعد بعد اغلاق المدارس، وتشارك كل لحظة فى حياتهم، وتحضر كل نشاط مدرستهم،
وتقرأ معهن ولهن، وتملأ حياه اسرتها بالبهجه والسرور.
أنظر إليها، وأقول كم أنا فخور بها.
كم أنا مقدر ما تفعله من لحظه ما تبدأ يومها الساعة السادسة صباحاً مع بناتها إلى ذهابها لعملها وممارسة نشاطها وحياتها وهى حاملة أوزار مرض السكر العضال، لتقيس، وتحلل لنفسها دمها وتضبط معايير غذائها.
ولأنها إنسان جميل فإنها كرست جزءا من مجهوداتها لمساندة الأطفال المصابين بالسكر لتمنع عنهم كوارث المرض بعد مرور السنين.
أنظر إليها وأقول هذه امرأة تستحق أن تكون مثلا أعلى ومِثلها فى المجتمع الكثيرون.
لا هى فرطت ولا تكاسلت ولا انهارت بل واجهت بابتسامة، وانتصرت بإرادة.
ولا يحس أحد من حولها بما فيها ولا تُحمل واحدا من أسرتها همها ولا لحظاتِ أسى وخوف قد تكون قد مرت أو تمر بها.
ولماذا أكتب عنها.. أكتب لأن هناك فى كل مكان، شابة مثلها، فنسبة الإصابة بالسكر فى مصر مرتفعة جدا، ومضاعفاته أراها فى المرضى كل يوم.
هناك آلاف مثل ابنتى وعليهن أن يأخذن حياتهن فى أيديهن، فلا يبتأسن، ولا يستسلمن، بل يعلمن أن الإرادة والمعرفة والجدية، تصنع منهن أبطالا وقدوة ومثلا أعلى. يا ابنتى.. ويا كل أم مثلها أنتن أمهات تستحقن الفخر والتقدير.
السيدة الثالثة:
سيقول كل من يقرأ هذا الكتاب، كل أم تحب أولادها وتحميهم وتحنو عليهم وتعطيهم بلا انتظار لرد أو اعتراف بجميل وهو ما يجعل الأم أما. ولكن زوجتى غلفت أمومتها بصداقة مع أولادها بلا تكلف ولا ضغوط، وتواجد إنسانى فى حياتهم برغبتهم وسعادتهم واشتياقهم..
إن اول ما يخطر على بالهم وأنا معهم، بعد يوم عمل أو انتهاء مقابلة أو حدث سعيد أو أليم هو الاتصال بها وسماع صوتها لأنها الأمان بدون كلام، وركن الراحة والاطمئنان بلا ضجة، ومساحة الحرية لهم فى التعبير عن نفسهم بلا خوف من أحكام ولا رهبة من إخراج مكنون سعادة أو آلام وأسأل نفسى أحيانا..
استطاعت بذكاء اجتماعى خارق وعمق عطاء لا نهاية له أن تجعل نفسها هذه الأم المناسبة لكل عمر مر به أولادنا بسلاسة وبلا تكلف. وتكون لهم صديقة وحبيبة وراعية ومتواجدة أربعا وعشرين ساعة بلا كلل ولا ملل، بأولوية فى حياتها لا تقبل المواربة ولا النقاش.
ومع اقتراب عيد الأم أقول لها كشاهد إن هذا أفضل إنجازاتها فى الحياة لأنهم بنفسهم السوية، واستقامة حياتهم، وجمال سلوكهم، وفضل وعقل علاقاتهم بالآخرين، نتاج لحبها المستمر بلا انقطاع الذى كون وجدانهم وحنن قلوبهم وأعطى كلا منهما الفرصة لإظهار أفضل ما فيهما.
وعندما جاء لنا الأحفاد، طيورا تغنى فى سماء حياتنا، وتعطيها نوعا وعبيرا للسعادة لم نعرفه من قبل، فإذا بها جدة غير عادية بحنان وعلم، وتواجد ومسؤولية بلا تدخل، وحب جارف ومشاعر فياضة وضعت أولوية جديدة فى حياتنا.
من أب وزوج يعى دورها فى حياته وحياة أبنائه، ويعلم أن جزءا كبيرا من فضل الله عليه بحب أبنائه يعود إلى أم تدفع فيهم كل ما هو جميل تجاهه، وتعمق فى وجدانهم كل ما هو محترم لذاته، أشكرك وأحترمك وأقدرك.
السيدة الرابعة وهى الأولى:
وأنهى مقالتى عن الأم، بأعزهن، وأقربهن، إلى عقلى وروحى ووجدانى.... أمى.
كنا قد التقينا، كل العائلة مع أمى وحولها، واحتضنتها كما كنت أفعل وأنا طفل وأنا شاب وأنا والد وجد وفى كل زمان.
ربتتْ على كتفي
«وحشتنى»!
قالتها بصوت خفيض، وهى تقبلنى بهذا الفيض من الحنان.
كيف استطاعت هذه الأم أن تكون هذه الموسيقى الحالمة فى حياتنا.
لا نُقدّر أحيانا أثرها إلا أنها بلا ضجيج، ودون أن تطلب من أى واحد منا شيئًا أبدًا،
هى مصدر الحب، والمودة، والبهجة، والالتزام بيننا.
كيف استطاعت بلا تدخل فى شؤون أى منَّا أن تكون طرفًا فاعلًا فى حياة كل منا.
كيف ارتقت فى علاقتها بأولادها وأحفادها وأولاد أحفادها، ليكون لقاؤنا الأسبوعى لديها، عندها، وحولها هو أجمل أيامنا..
كبارًا وصغارًا،
نصبو إليه،
ونسعى نحوه،
ويرتمى أحفادنا بين ذراعيها حباً وحناناً.
كيف جعلت حبها لوالدنا، رحمة الله عليه، نموذجًا لكل زوجة فى الأسرة،
وجعلت قناعتها وسكينتها تتسلل إلى وجداننا.
كيف وبلا طلب ولا سؤال جعلت دوراننا حولها متعة وبهجة وأمانا.
هذه هى أمى الجميلة، بل الأجمل فى الأسرة.
برقتها
بأناقتها
بصمتها
وابتسامتها.
عيدك يا أمى ما زال أبهج أعيادى،
ولولاكِ يا أمى ما كان ميلادى،
وميلاد أبنائى وأحفادى.
أحبك يا أمى كل يوم زيادة،
أحب فيك ذكرياتك التى تحكينها لى وذكرياتى.
أحب من خلالك كل أفراحى بل وأحب معك حتى أحزانى.
أحب منك رسالة الهدوء تُشيعين بها سماحة القبول بيننا، وبلا جهد تَنشرينها.
أحب فيك الصبر والمحبة التى تُعطين،
أحب فيك استيعابك لنا عبر السنين،
بلا شكوى أو أنين.
فأنتِ يا أمى كنت وما زلت إلهام وجداننا،
وأحلى ما فى حياتنا.
وكل عام أنت بيننا،
حولنا،
تُشعِّين نورك باستدامة،
بإيماءة أو بلفتة بريئة،
وحتى بصمْتك أو بابتسامة.
أنا لا أكتب فى أمى الآن شعرًا، أنا فقط أصف ما فيها كما هو، وكلماتى لا ترقى إلى حقيقتها.
لم أرَ مَن هو فى بساطتها بلا متطلبات، سوى سعادة الجميع.
نحجُّ إليها ولا تدعونا، وإذا التقينا بها تروينا بابتسامتها بلا لوم ولا عتاب لمن تأخر أو مَن لا يجىء.
حبيبتى أمى..
كل عام أنت تعطينا من بستان محبتك وريحان عطرك يا أجمل أمٍّ فى الوجود.
ولكل أم حولى أقول
شكرا ومحبة وتقدير لأربع أمثلة لسيدات سوبر، أمهات هذا الجيل الذى نظلمه، وابنتى ومثيلاتها، وزوجتى وكل زوجة راعية، وأمى وأمك وكل أمهاتنا.
نقلا عن المصري اليوم