فاطمة ناعوت
فى مثل يوم أمس ١٧ مارس عام ٢٠١٢، رحل قداسةُ البابا شنودة الثالث وبَكَتْه مصرُ وسار فى جنازته حشودٌ هائلة من المسلمين والمسيحيين؛ لأنه نشر قيمة (السلام والسماحة)، التى لا نرجو سواها لبناء مجتمعنا الجديد. حين حاصر المقرَّ البابوى متطرفون من السلفيين والإخوان، قُبيل رحيله، حاملين يافطات رخيصة تحمل كلامًا بذيئًا عنه وعن الأشقاء المسيحيين، ماذا فعل البابا؟ فى الأربعاء التالى كانت عِظته بعنوان (اغفروا). وكانت آخر عظات قداسة البابا شنودة، رحمه الله، وقد رأى غضبَ أبنائه المسيحيين قد بدأ يتصاعد بما يُنذرُ بأزمة طائفية وشيكة، فسعى إلى امتصاص ذلك الغضب وتحويله إلى طاقة محبة وغفران وسموّ عن الصغائر. وكانت إحدى أجمل عظات الرجل إذْ تؤكد وطنيته وحبّه لمصر وحرصه على استقرارها، حتى آخر لحظات حياته وشيخوخته التى لم يقدّرها أعداءُ الحياة خصوم الوطن. كان «الحُبُّ» نهجَه، فاستوجب أن يدخلَ التاريخَ من أوسع أبوابه ليتربّع على عرش الخلود. يوم جنازته كنتُ أحد الشهود على رقىّ هذا الشعب الطيب وتماسكه فى المحن. بعد خروجنا من الكاتدرائية وراء نعش البابا شنودة، شاهدتُ بعينى سيداتٍ مصريات يقفن بحجابهن فى شُرفاتهن على طول شارع رمسيس فى محيط الكاتدرائية. كُنَّ يُدلين سلالَهن بزجاجات مياه باردة ليشربَ المُشيِّعون الذين انتثروا بمئات الآلاف فى وداع البابا. تصعدُ سلالٌ بزجاجات فارغة، لتهبط بغيرها ممتلئة بالماء والحُبّ. وتستمر رحلةُ صعود السلال وهبوطها ستَّ ساعات متواصلة. كأن أولئك المسلمات الطيبات قد سمعن السيدَ المسيح يقول: «كأسُ ماءٍ بارد، لا يضيعُ أجرُه»، أولئك هم المصريون الذين لم يتلوّثوا بالسموم الوافدة إلينا من قفر الصحارى، أولئك الذين حموا أرواحَهم من دَنس البغضاء.
كان البابا شنودة واسعَ الصدر يترفَّع عن الصغائر والدنايا، فلم يغضب يومًا مما يُقال فى حقّه من سخافات يُطلقها تافهون فارغو العقل. وكان يمنعُ شعبَه من الغضب حتى فى اللحظات الصعبة حين كان ينفجرُ الأمرُ فى إحراق كنيسة أو قتل مسيحيين، كان يدعو للغفران مُردِّدًا قولته الشهيرة: «كلّه للخير، مسيرها تنتهى، ربنا موجود»، ثم يُصلى للمجرمين فى حقّه، داعيًا الله ألّا يُقيمَ عليهم خطاياهم لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون.
فى إحدى عِظاته عام ١٩٨٠، قال البابا شنودة لأقباط مصر: (مثلما أنا مستعدٌّ لأن أبذل حياتى من أجل أى واحد منكم، فإننى مستعد لبذل حياتى من أجل أى مسلم فى هذا البلد. إن الحبَّ الذى فينا لا يعرفُ تعصّبًا ولا تفريقًا، فنحن إخوةٌ فى هذا الوطن. ونحن جميعًا مستعدون لبذل أنفسنا من أجل كلّ ذرة تراب فى مصر. نحن لا نعرف سوى الحب).
ولا أنسى اليومَ التالى لرحيله؛ جاءتنى السيدةُ التى تُعيننى على شؤون بيتى متشحةً بالسواد. وحكت لى أنها فى طريقها إلى بيتى كانت تجلس فى باص مدينة الرحاب جوار زميلتها المسيحية التى تعمل فى الحضانة. بادرتها زميلتُها: (خير يا أم محمد، لابسة أسود ليه بعد الشر؟) فردّت أم محمد بحزن: (البقية فى حياتك فى البابا، كلنا زعلنا عليه. كان راجل طيب وكل كلامه خير)، فأجهشت «أم كيرلس» بالدمع، ثم اقتسمت مع «أم محمد» ثمرةَ يوسفى، من فطورها. فغدا نصفُ الثمرة فى يد تحمل الصليب، والنصفُ الآخرُ فى يد ترفعُ إصبعَها للشهادة. هذا هو شعبنا المصرىُّ الذى عرفته ولا أعرف سواه. هو الشعب الذى احتشد فى جناز البابا شنودة المهيب، الذى لم نرَ مثله منذ جناز الزعيم جمال عبدالناصر، الجناز الذى امتدّ من الكاتدرائية حتى وادى النطرون، حيث يرتاحُ جسدُه المتعَب بهموم الوطن.
يُحسب لقداسة البابا شنودة عمله على بناء كنائسَ قبطيةٍ (مصرية) فى جميع دول العالم؛ حتى لا تذوبَ هُوية الأقباط فى الهُويات الغربية، فكان بهذا يمدُّ خيوطَ المواطَنة بين أبنائه وبين وطنهم مصر، فكأنما لم يبرحوها مهما استطالت خيوطُ الغُربة، وتشتتت فى أرجاء الأرض.
أناشدُ الرئيس الوطنى/ عبدالفتاح السيسى أن يجعل فى مصر شارعًا باسم قداسة البابا شنودة، مثلما جعلتْ أمريكا أحد شوارع ولاية نيوچرسى على اسم ذلك الرجل المصرى العالمى: Pope Shenouda ||| street. ذلك الشارعُ الذى زُرتُه والتقطتُ فيه صورًا تذكارية؛ وأنا أقفُ بفخر تحت لافتة تحملُ اسمَ رجلٍ نبيل من بلادى.
رحم الله هذا الرجل الوطنى الجميل وبارك فى خطا قداسة البابا تواضروس الثانى الذى بالفعل يستكمل مسيرة المحبة والسلام لشعبنا العظيم. وطوبى لصنّاع السلام، لأنهم يرثون الأرض. «الدينُ لله، والوطنُ لمَن يجمع شتات الوطن».
نقلا عن المصري اليوم