مدحت بشاي
على مدى ما يقارب القرن من الزمان (وتحديدًا فى عام 1928)، ومنذ كان للجماعة الإرهابية ذلك الوجود المشين فى حياتنا، ذلك الوجود لكيان مخاصم لكل القيم الإنسانية النبيلة على أرض وطن أحبَّ أولاده الحياة ولهم تاريخ عظيم فى دنيا الإبداع وصناعة الجمال، والأهم انتسابهم لأديان آمنوا بعقائدها بحب وامتثال وامتنان وتقدير والتزام عظيم.. نعم، وجميعنا شهود على وجود جماعة الشر ومنذ إرهاصات النشأة الأولى وحتى تحقيق ذلك التوسع السرطانى الخبيث.. الخبيث فى رفع ولاة أمرهم شعارات متلبسة نصوص آيات السماحة والحب والعدالة وكل القيم التى ما عرفوها، ولا مارسوا أفضالها، ولا استشعروا جوانبها الروحانية البديعة.. وكانت الانطلاقات التوسعية والانتشار المؤثر والموجع من ساحات دور العبادة بإطلاق رسائل دعوية مغشوشة وعظات دينية حملوها ألغامًا مسمومة وقاتلة.. وعليه - للأسف - كان النجاح الهائل المصاحب لتلك الحملات التى حددوا لها إحداثيات انطلاق جغرافية شملت كل محافظات مصر ومدنها وقراها ونجوعها، وفى مرحلة تالية من مراحل التمكين بعد الانتشار المذهل، كان الاحتكار الفكرى والمادى لمؤسسات خدمية حكومية وأخرى خاصة متنوعة الاختصاصات والأنشطة.. إعلامية واقتصادية وتجارية وثقافية ودينية.. نقابات ونواد وجمعيات ومراكز بحثية وغيرها. ولكن - ولعله من حسن الطالع - لم تكن الفنون بكل أنواعها وإبداعاتها من بين الأدوات التى سخّرها ملوك تلك الجماعة الباغية فى خدمة أغراضهم باستثناء بعض المحاولات الساذجة فى بدايات عملهم، وذلك لأن فاقد الشىء لا يعطيه.. هم فى النهاية جماعة من البشر يعد معظم رموزهم أمراء للكراهية والفكر التدميرى الكاره للإبداع والجمال والرافض فكرة «الوطن» والمعادى لمبادئ «المواطنة» والوطنية والانتماء.
وعليه، كانت حروب تلك الجماعة والجماعات الأخرى التابعة لنهجهم الدموى فى المنطقة المستهدفة للفنون والفنانين وإنتاجهم على مدى تاريخهم الأسود، وبعد أن صار الرسم والنحت والفن بشكل عام لديهم منبوذا، والذى أدى بأنصار تلك الجماعات إلى تحطيم معالم الحضارة المتمثلة فى المنحوتات والتماثيل، أو بترها عبر قطع رؤوسها (قطع رأس تمثال أبى العلاء المعرى فى مدفنه بمعرَّة النعمان بسوريا، وتمثال شاعر الفرات محمد الفُراتى- تحطيم تمثال الطاهر حداد بتونس- تم اختطاف تمثال طه حسين فى المنيا- وتمت تغطية تمثال أم كلثوم بحجاب- محاولة تحطيم تمثال عين الفوارة بالجزائر...).. وغيرها من السلوكيات التدميرية التى عرفها العديد من البلدان كأفغانستان والعراق، والتى تعرّض لها متحف الموصل بعمليات السرقة والنهب عام 2003 وتحطيم محتوياته من طرف تنظيم داعش عام 2015، وظلت أعمال فنانينا شاهدة على العديد من المآسى الإنسانية، وكانت بمثابة وثائق بصرية خالدة ترجع إليها كل الأجيال بين الفينة والأخرى.. ولكن المشكل هو عدم الاهتمام واللامبالاة التى تواجه بها هذه الأعمال من طرف العديد من المؤسسات الرسمية فى البلدان العربية، وعدم اقتناعها بجدوى الفن فى مواجهة التطرف والإرهاب، حتى وصل الأمر إلى أن مجموعة من الفنانين العرب كانوا هم أنفسهم ضحايا لهذا التشدد والتفكير الظلامى، الذى يحرم المجسمات ويدمر التماثيل ويحطم أنامل الرسامين البارعين تنكيلا بهم وبعملهم الفنى، ولا أدل على هذه الهمجية من الإعدام البشع للباحث الأركيولوجى (علم الآثار) ومدير آثار تدمر الأسبق السورى خالد الأسعد فى عام 2015، الذى فضل الموت على أن يدل عناصر داعش على مواقع الكنوز الأثرية التدمرية.
معلوم أن تكاليف محاربة الإرهاب المادية والمعنوية باتت هائلة لاعتماد جماعاتها الدموية على شبكات من الخونة فى الداخل والخارج، لإعداد وتنفيذ ضربات تدميرية يقوم بها شباب انتحارى تم تضليله بأفكار عجيبة حول الجهاد والثمن العظيم الذى ينتظرهم فى جنة الخلد.. وعليه أتصور وأتمنى أن تخصص حكومتنا وحكومات المنطقة التى اكتوت شعوبها بنيران الإرهاب ميزانيات داعمة لميزانيات مؤسساتنا الدينية لتحفيزها لإنتاج مواد إعلامية وفنية (برامج إذاعية وتليفزيونية ومعارض فنون وسينما ومسرح ودراما تليفزيونية وغناء..) لضرب أفكار التحليل والتحريم والتكفير والكراهية برعاية مؤسسات دينية لها من الاحترام والمصداقية ما يجعلها قادرة على محاربة جحافل أهل الشر وفق تعاون وثيق ترعاه الحكومات بين أهل التنوير والفكر والإبداع وبين رموز تلك المؤسسات الدينية، بهدف إعادة استنارة عقول أجيالنا الطالعة.. ونعود فنسأل عن وجود ودور المجلس القومى لمكافحة الإرهاب: «هو فين؟!!!».
نقلا عن المصري اليوم