محمد أبوقمر
ما سأذكره الآن ليس خاصا بأمي وحدها وإنما كانت مواقفها تعبر عن المرأة المصرية التي أعرفها وأدرك مدي أصالتها ومقدار وعيها وإخلاصها :
 
1- ذات مرة كان أبي يمر بأزمة مالية عاصفة ، وعلي غير عادته تأخر عن المجيء إلي ما بعد منتصف الليل ، وكانت أمي قلقة ، ولكي لا نقلق نحن أولادها أوهمت أنها نائمة لكي ننام ، لكنني كنت أعرف أنها تكاد تنفجر من الخوف والقلق عليه وليست نائمة ، وبينما أنا أراقب من تحت الغطاء وصل أبي في حدود الثالثة فجرا ، أمي أحست بخطواته قبل وصوله إلي الباب فنهضت إليه وسمعتها وهي تقول له : مش عايزاك تزعل كل حاجه هنا في البيت هانبيعها ولما تتحسن الأمور نبقي نشتري غيرها بس أهم حاجه عندي إنك ما تزعلش لأنك عندي أغلي من الدنيا كلها ، حينئذ ضمها أبي وفي جبينها قبلها وقال لها : طول ما إنتي معايا فأنا أملك الدنيا كلها.
 
2- أمي لم تكن تعرف شيئا في السياسة ، بيتها وزوجها وعيالها هم كل عالمها ، ولا تهتم بشيء آخر غير شغل البيت والاهتمام بعيالها وزوجها ، لكن في أول انتخابات رئاسية بعد ثورة يناير هممت بالخروج أنا وإخوتي للإدلاء بأصواتنا في الانتخابات ، لكن أمي استوقفتنا وقالت لنا بحزم : إياك حد منكم ينتخب الاخواني العرة ده إللي اسمه مرسي ...إللي هاينتخبه هايبقي خصيمي ليوم القيامه.
 
3- تعودت أمي أن تنتظرني خلف الباب أثناء عودتي من المدرسة كل يوم ، وأول ما أدخل تحمل عني حقيبتي وتفتحها وهي تقول لي : أخدت كام في كراسة الحساب ...عملت إيه في حصة الإملاء...أكلت سندويتشاتك ولا لأ ، ثم تصحبني لأغتسل وهي تعد لي الطعام وبعد ذلك تجلس إلي جانبي حتي أنتهي من كتابة الواجب .
 
4- ذات يوم نسيت حقيبتي في المدرسة ولم أفطن لذلك إلا حين دخلت إلي البيت ووجدت نفسي قبالتها وهي تسألني : هي شنطتك فين؟ ، أنا لم أنطق ، هي لم تعاقبني ، وإنما طبطبت علي ضهري وقالت لي : لما تروح بكرة هاتلاقيها في الدرج وابقي خلي بالك المرة الجاية علشان إللي ينسي كتبه وكراريسه يبقي كأنه ماشي عريان ، رحمة الله عليكي يا أمي فمنذ ذلك اليوم وأنا اعتبر كتبي هي بمثابة ملابسي وجلدي ولحمي.
 
5- كلما تذكرت ما كان يقوله لي أبي عن أمي أدركت كيف كان هذا الرجل يحب هذه المرأة ويحترمها ويقدرها ، إذ كنت قد عاندت أمي ذات مرة فأغضبتها فأخذني أبي إلي خارج البيت وقال لي : أمك دي مش أمك لوحدك دي أمي أنا كمان وإللي يزعلها يبقي بيزعلني ، ثم قال لي : إسمع كلام أمك حتي لو غلط..
6- كانت أمي تحب أوي أوي أن يحكي لها أبي عن نفسه وعن مغامراته وبطولاته ، وحين كان يبدأ في الحكي كانت تجبرنا علي السكوت وتطفيء التلفزيون وتغلق الأبواب وتجلس قبالته وهي في حالة انتباه شديدة ، تضحك مرة ، وينتابها الذهول مرة ، وتتعجب مرة ، وفي كل مرة كانت تصدق كل حكاياته رغم مافيها من مبالغات تصل إلي حد الفشر ، وكنت أنا أتغاظ جدا منها إذ كيف تصدق أنه صارع عفريتا وهزمه وأجبره علي الفرار ، لكنها كانت تصدق وكانت تتفاخر بشجاعة زوجها وبقوته التي لم تكن في معظم الأحوال حقيقية.
 
7- عندما كان أبي يشتري لنفسه ثوبا جديدا كنت أقف لأشاهد كيف تساعده هي وهو يرتديه ثم تدور حوله وهي في حالة إعجاب وذهول ، وحين يهم بالخروج لا تتركه يخرج إلا حين تقرأ له سورة الفلق وهي تدور حوله كأنها تقيه من شر الحسد.
 
رحمة الله عليهما ، لم يكونا يرعيان أو يعتنيان بأسرتهما فقط بل كانا يصنعان وطنا ، المرأة المصرية هي كل حواديت مصر وهي كل حكمتها وأمثولاتها وهي مخزون المعرفة والوعي ومنبت كل القيم الأخلاقية الرفيعة ، أبي وأمي كانا مجرد نموذجين لكل أفراد هذا الشعب العظيم الذين حافظوا علي بقاء هذا الوطن وبنوا فيه كل القيم الإنسانية العظيمة وعلمونا كيف نكون إنسانيين وأدركنا منهم معني الحب .