عاطف بشاي
وكأنه اختفى من ذاكرة الفن المرئى وذاكرة الإعلام الفنى والثقافى.. فلا أحاديث صحفية ولا أخبار ولا برامج تليفزيونية ولا تكريمات ولا احتفاء فى مهرجانات سينمائية.. ذلك لمجرد أن احتواه الصمت والعزلة قهرًا تحت وطأة المرض.. رغم أنه كان يملأ الدنيا وجودًا مضيئًا وزخمًا إبداعيًا متفردًا.. وحضورًا وهاجًا يضمه والأصدقاء والأحباب من المفكرين والمبدعين والمثقفين فارسًا مغوارًا فى جمهورية الكلام خلفًا لشقيقه الأكبر «محمود السعدنى»، الحكواتى البديع، زعيم المملكة ورائدها، الكاتب الكبير والساخر القدير..
أتحدث عن «صلاح السعدنى» أو «العمدة» كما أحببنا أن نناديه، والذى إذا ما تحدث فإنه يستولى على العقول والأفئدة ويصنع البهجة ويفيض بالإشراق بخفة ظل لا متناهية وقوة تأثير طاغية وسرعة بديهة حاضرة وجسارة سخرية لاذعة..
كان لقائى الأول معه فى منتصف سبعينيات القرن الماضى من خلال مسلسل «المصيدة»، الذى كتبت قصته والسيناريو والحوار له، وهو مسلسل كوميدى تدور أحداثه فى عشر سنوات من حياة زوج وزوجة، يعكس التطورات والتغيرات العاطفية والإنسانية التى تطرأ على هذا الحب، الذى يبدأ ملتهبًا وينتهى بحالة من الرتابة والملل والاعتياد.. والحقيقة أنه قدم دورًا ساخرًا من أجمل أدواره دون مبالغة، فأثار الضحكات من خلال طبيعة الموقف الدرامى وليس عن طريق ابتزاز المتفرج بافتعال الضحك الخشن والزغزغة..
ثم جمعنى به الفيلم التليفزيونى الشهير «فوزية البرجوازية»، عن قصة للساخر الكبير «أحمد رجب»، ويتناول الصراع السياسى بين أنصار اليمين واليسار فى حارة بحى شعبى.. والاتهامات المتبادلة بينهما بالتنابز بالألفاظ المتحذلقة، التى لا يفهمون مدلولها ومعناها الحقيقى.. فهذا يمينى رجعى أو برجوازى رأسمالى متعفن.. وذلك يسارى «أيديولوجى» ديماجوجى حنجورى.. وهكذا..
نجح الفيلم نجاحًا كبيرًا وأثار ضجة واسعة بين المثقفين أصحاب الانتماءات المختلفة بين مؤيد ومعارض، ولكنه أعجب العامة إعجابًا بالغًا، حتى إن رجل الشارع كان يردد مكررًا تلك المصطلحات المعقدة والغريبة عليه فى سخرية وتندر.. وقدم «السعدنى» من خلاله إبداعًا متفردًا لشخصية «عبدالواحد»، اليسارى الدَّعِىّ، الذى يردد الشعارات الجوفاء، فى تحذلق يثير السخرية وتراشق بالمصطلحات يفجر الضحكات..
وكان اللقاء الثالث بينى وبين «صلاح السعدنى» فى مسلسل «عمارة يعقوبيان» فى شخصية «عزام»، الذى بدأ حياته ماسحًا للأحذية.. اختفى سنوات طويلة.. ثم ظهر فى الثمانينيات فى زمن الانفتاح، وقد أصبح ثريًا يمتلك كثيرًا من محال الأحذية فى شارع «طلعت حرب»، وقد حفل المسلسل بعدة مفارقات وضّحت التباين الكبير بين ماسح الأحذية الذى يجلس بصندوقه فى الشارع ينظف حذاء الباشا.. ليدور الزمن دورانه.. وعندما يثرى «عزام» ليسكن الشقة المواجهة لشقة الباشا فى عمارة يعقوبيان.. وتصبح المواجهات بينهما تجسيدًا حيًا لانقلاب السلم الطبقى الاجتماعى... باشا مفلس ضائع يتصيد العاهرات من البارات المتواضعة.. وثرى انفتاحى أمى محدث نعمة ينحدر من أصول وضيعة استفاد من قوانين الانفتاح الاقتصادى التى صدرت فى منتصف السبعينيات لتفتح الباب أمامه وأمام موجات من الفساد الاجتماعى وجدت الفرصة سانحة لها لتقلب موازين المجتمع المصرى..
والحقيقة أن «صلاح السعدنى» كشأنه فى أعماله المختلفة يُعتبر نموذجًا رائعًا للممثل الذى يدرك الفارق الكبير بين الفن الحقيقى والتمثيل الآلى.. ويُذكِّرنى فى ذلك بما سبق أن أكده.. «استانسلافسكى»، الذى يرى أنه لا يمكن أن يكون هناك فن حقيقى دون أن يعيش الفنان فى فنه.. ولا يتأتى ذلك إلا من خلال الدراسة العميقة من جانب الممثل لكل ما يتصل بالشخصية التى يؤديها بأبعادها المختلفة.. ظروفها الاجتماعية.. عاداتها.. سلوكها العام.. أحوالها النفسية.. علاقتها بالواقع المحيط.. قدرتها على التكيف أو التمرد المجتمعى.. بدون أن يقع فريسة القوالب الجامدة أو النمطية التى صارت تقليدًا ممجوجًا ينتقل من جيل إلى جيل..
لذلك، فقد استغرق «صلاح السعدنى» فى مناقشات طويلة معى أثناء كتابة حلقات المسلسل.. يتفق ويختلف فى الكثير من التفاصيل الخاصة بالبناء الدرامى.. والسرد وحتمية الصراع.. ودلالات المحتوى. ويطرح الأسئلة حول تفاصيل تاريخ الشخصية التى يجسدها.. وجذورها والتعبير المناسب حول التحولات الدرامية التى تطرأ عليها.. والمراحل المختلفة التى تمر بها اجتماعيًا وإنسانيًا.. وظل حائرًا يعانى معاناة حقيقية حتى بداية التصوير ليمتلك مفاتيح أداء الشخصية.. وساعدته موهبته الساطعة وثقافته العريضة وخبرته الحياتية وقدرته المبهرة فى التلون الأدائى على خلق الإحساس المناسب والانفعال المطلوب تجسيده لإبراز المغزى أو المضمون الذى يسعى له المؤلف..
إنه ممثل فريد لا نظير له.. ندعو له بجماع مشاعرنا وبنبض قلوبنا أن يمن الله عليه بالشفاء العاجل والعودة القريبة..
Atef.beshay@windowslive.com
نقلا عن المصرى اليوم