محمود العلايلي
احتفى العديد من المراقبين والمهتمين بما أعلنته تركيا بوقف الحملات الدعائية السياسية ضد النظام المصرى والتنبيه على عدد من رجال الأعمال المحسوبين على الإخوان المسلمين بمغادرة تركيا فى خلال 90 يومًا، واعتبر الكثيرون أن هذا انتصار على الرئيس التركى وتطلعاته العثمانية التى لم تتوقف مع تغير الزمن، وعلى الرغم من المبالغات فى إظهار الشماتة فى النظام التركى ومن الإعلاميين الذين تم وقف حملاتهم، فإن بعض هذه المبالغات تنضوى على بعض الصحة لأنها انعكاس لتغيير بوصلة النظام التركى تجاه مصر، ومحاولة من جانب واحد لإثبات حسن النوايا، إلا أننا لا يمكننا اعتبار ذلك ثمنا كبيرا تدفعه تركيا وتستأهل عليه ردا ثمينا من مصر، لأن هذه الحملات لم تتعدَّ إلا إظهار العداء للنظام والإعلان عن استمرار وجود تركيا كحاضنة لتنظيم الإخوان المسلمين، بينما لم تتمكن هذه الحملات أبدا إلى تغيير موقف أحد أو كسب موالين جدد، وإنما كانت عونًا نفسيًا للإخوان وأنصارهم بأن الدعم موجود والحماية متوفرة.
إن كتابة تركيا قبل مصر فى العنوان مقصود، لأن التقارب الحادث عبارة عن خطوات واسعة من الجانب التركى، تقابلها خطوات مصرية محسوبة بشروط، وهو ما لم تقم به تركيا بدافع عاطفى أو وازع دينى، وإنما لو رجعنا بالذاكرة لبضع سنين إلى الوراء ورصدنا الخطوات الاستخباراتية المصرية والتحركات الدبلوماسية فيما يتعلق بتشكيل منتدى غاز المتوسط وتشكيله متضمنا قبرص واليونان بعد الانتهاء من ترسيم الحدود معهم، ودمج إسرائيل فى المنتدى بالإضافة إلى إيطاليا وفرنسا كشركاء تجاريين، وكل هذه الدول تحت مظلة الاتحاد الأوروبى - ما عدا إسرائيل - يجعل من الصعب بمكان النَّيل من الدول أعضاء المنتدى ومن ضمنهم مصر فيما يتعلق بملف الغاز بالبحر المتوسط، وهو ما أظهرته التجربة عندما حاولت تركيا التنقيب عن البترول فى المياه الإقليمية اليونانية ورد الفعل الأوروبى تجاه ذلك، وهو ما جعل تركيا معزولة إقليميا من ناحية، وفى موقف الدولة غير القادرة على الحصول على حقوقها من الثروات الطبيعية نتيجة لهذه العزلة من ناحية أخرى، خاصة بسبب العداء التاريخى بينها وبين جاراتها، وبالتالى لم تجد سوى مصر فى هذه الحالة لكسر هذه العزلة أو على الأقل للظهور بمظهر الدولة غير المعادية.. أما فيما يتعلق بالملف الليبى، فقد أظهر قصور نظر الاستخبارات التركية وعدم تمكنها من حساب قوة مصر العسكرية، بالإضافة إلى عدم تقدير الميزة النسبية بالتفوق المصرى لوجستيا على الأراضى الليبية من ناحية التحركات العسكرية أو العلاقات الاستخباراتية، بالإضافة إلى الوضع الحالى بحلحلة الإشكالية الليبية وظهور تركيا كطرف خارجى مسؤول عن دعم الميليشيات، ناهينا عن رغبة الأتراك فى استعادة اتفاقيات التصنيع العسكرى بينهم وبين الولايات المتحدة فى ظل الإدارة الجديدة، مما يستلزم تقليل حدة صراعاتهم الإقليمية، بالإضافة إلى تيقن النظام التركى أن رهانهم على تنظيم الإخوان المسلمين قد أفقدهم نفوذهم فى الشرق الأوسط، عكس ما كانوا يعتقدون، مما أدى إلى تدعيم النفوذ الإيرانى الشيعى سواء سياسيا أوعسكريا
فى المنطقة.
ولا يعنى ما سبق أن النظام التركى قد صار صديقا وحليفا، وإنما يقوم بخطوات لتدعيم الثقة، وهو ما لا يمكن إغفال أهميته لأنه يؤدى إلى تقليل تكاليف الاستعدادات العسكرية والسياسية والاقتصادية للحماية من العداء الظاهر أو المستتر، كما لا يجب الاستهانة بخطوات التقارب، لأنه كلما كانت هناك علاقات دبلوماسية منتظمة، كانت هناك التزامات أدبية تحكمها اتفاقيات عسكرية وسياسية واقتصادية وهو ما لا يتوافر فى حالة العداء، وهو ما يجعلنا نرحب بهذه التفاهمات التى تخرج تركيا من خانة الأعداء- مؤقتا - أما دخول تركيا فى خانة الدول الأصدقاء أو الحلفاء فلذلك شروط أخرى وأوضاع مغايرة تحددها التصرفات ويثبتها الزمن.
نقلا عن المصري اليوم