ماهر عزيز بدروس
في استضافة لأحد المشتغلين بالقضاء بإحدى القنوات التليفزيونية فجعت لاستماعى له يؤكد أن مشروع قانون الأسرة للمسيحيين يمنع الزواج الثانى منعاً باتاً لمن يحصلون على حكم بمقتضى القانون بانتهاء الزواج بالتطليق لأحد الأسباب التي ينص عليها القانون..
ولقد راعنى أن ينطوى مشروع القانون على ظلم فاجع كهذا، فكتبت عدة احتجاجات موجزة تعبر عن انزعاجى الشديد لهذا الظلم، ومناداتى برفعه على الفور قبل صدور القانون، وكان ذلك ما ساقنى في أوج انزعاجى وخوفى من صدور القانون دون تعديله، أو تضمينه ما غفل عنه، أن أطلقت دعوة مُلِحَّة لطرح القانون للنقاش العام.
والحق أن هذه الدعوة كان يكمن وراءها شبه يقين بأن ما صرح به رجل القانون في القناة التليفزيونية عن امتناع الزواج الثانى بمقتضى القانون قد لا يكون دقيقاً، ولابد أن الاطلاع على مُسَوَّدة القانون ذاته سيلقى ضوءاً كاشفاً على هذه المسألة على وجه الخصوص.
ولإدراكى بأن دعوتى لطرح القانون للنقاش العام هي فى عداد أحلام اليقظة التى لا يمكن أن تحقق أبداً، رحت أبحث عن أحد معارفى الأصدقاء بالكاتدرائية المرقسية كى يمنحنى نسخة من مُسَوَّدة القانون بصفة ودية، وباستحقاقات الصداقة المتينة بين الأحباء.
ولقد كان الاطلاع على مُسَوَّدة القانون هو الإجراء الغائب المهم للتحقق من أية تقولات بشأن القانون.
وإحقاقاً للحق فلقد وجدت القانون جيداً في مشموله العام، عدا نقيصتين اثنتين أرجو أن تنالا قدراً أكبر من العناية لدى الذين توفروا على تشريعه ووضعه، وهاتان النقيصتان تتعلقان بدرجة الوضوح والشمول التي ينبغي ألا يغفلها القانون في مسألتين جوهريتين، خاصة وأنه يترتب عليه تنظيم حياة أفراد المسيحيين وعائلاتهم على أرض مصر..
أما هاتان المسألتان الجوهريتان فيمكن تناولهما في صيغة النقيصتين التاليتين:
النقيصة الأولى:
يورد القانون في "الفصل الخامس" منه المعنون: "الموانع المبطلة للزواج، وانتهائه، وانحلاله" تحت "الفرع الأول" (أحكام عامة) في المادة (24) النص التالى:
"لكل من حصل على حكم بات بالتطليق أو ببطلان الزواج بانحلاله مدنياً وفقاً لأحكام هذا الباب، أن يتقدم للكنيسة التي ينتمى إليها وقت التقدم بالطلب، طالباً الزواج كنسياً بآخر، وتبت الكنيسة في طلبه وفقاً لمبادئ الشريعة المسيحية"
ذلك هو كل ما ورد بشأن الزواج الثانى في مُسَوَّدة القانون.
ووجه النقص يتعلق بأن للزواج الثانى أهمية كبرى تجعله مستحقاً لفصلٍ أو فرعٍ مستقل وحده ينص على كل مقتضيات الزواج الثانى وأحقيته واستحقاقاته..
والعبارة التي اشتملت عليها المادة (24) في نهايتها، التي تنص على: "وفقاً لمبادئ الشريعة المسيحية"، تظل مبهمة وغامضة دون تفصيل يليق بخطورة ولائقية وضرورات الزواج الثانى.
إن فصلاً أو فرعاً مستقلاً للزواج الثانى ينبغي أن يؤكد الأساس الكتابى اللاهوتى للزواج الثانى..
ففي الإنجيل للقديس بولس فى الرسالة الأولى لأهل كورنثوس، الإصحاح السابع، في الآيتين السابعة والعشرين والثامنة والعشرين الشهيرتين، يضع الرسول المختار القاعدة الذهبية للزواج الثانى هكذا: " أَنْتَ مُرْتَبِطٌ بِامْرَأَةٍ، فَلاَ تَطْلُبِ الانْفِصَالَ. أَنْتَ مُنْفَصِلٌ عَنِ امْرَأَةٍ، فَلاَ تَطْلُبِ امْرَأَةً. لكِنَّكَ وَإِنْ تَزَوَّجْتَ لَمْ تُخْطِئْ".. ومعروف في اللغة أن الصياغة هكذا للمذكر والمؤنث معاً.. لذلك فالقول للمرأة أيضاً هو هكذا: " لكِنَّكِ وَإِنْ تَزَوَّجْتِ لَمْ تُخْطِئِى"(1 كو 7: 27، 28).
إن فصلاً أو فرعاً مستقلاً للزواج الثانى ينبغي أن يؤكد بعد ذلك أحقية الزواج الثانى واستحقاقاته، دون أن يترك النص هكذا مبهماً غير محدد عرضة للتفسيرات المتعسفة البعيدة عن نص الإنجيل وروحه..
النقيصة الثانية:
يورد القانون في "الفرع الثالث" المعنون: "انتهاء الزواج" الحالات التي يجوز فيها لأى من الزوجين طلب التطليق، وذلك بالنسبة لكل كنيسة أو طائفة بمصر على حدة..
وبالنسبة "لطائفة الأرثوذكس" أورد القانون في المادة (37) ستة (6) أسباب يُعْتَبَر بمقتضاها في حكم الزنا "كل عمل يدل على الخيانة الزوجية لأى من الزوجين"، وعَدَّدَ الأحوال كلها على النحو التالى:
1- هروب الزوجة مع رجل ليس من محارمها، أو مبيتها معه بدون علم زوجها أو إذنه بغير ضرورة، أو هروب الزوج مع امرأة ليست من محارمه أو مبيته معها.
2- وجود ما يدل على حدوث علاقة آثمة بين أحد الزوجين وشخص آخر، كمكاتبات مادية أو الكترونية أو أوراق أو مستندات أو اتصالات هاتفية ثبت صدورها من أحد الزوجين أو من الشخص الآخر.
3- وجود رجل غريب مع الزوجة بحالة مريبة، أو وجود امرأة غريبة مع الزوج فى حالة مريبة.
4- تحريض أو تعريض أحد الزوجين الآخر على ارتكاب الزنا أو الفجور.
5- إذا حبلت الزوجة فى فترة يستحيل معها اتصال زوجها بها، ما لم يثبت بالطرق العلمية أن الحمل منه.
6- الشذوذ الجنسى ويعتبر في حكم ذلك قيام أحد الزوجين بمعاشرة الآخر بغير الطريق الطبيعى للمعاشرة الزوجية، أو إذا ثبت أن أحد الزوجين يقوم بمعاشرة مثلية جنسية.
لكن القانون راح يعدد في المادة (38) لطائفة "الأرمن الأرثوذكس" خمسة عشر (15) سبباً يجوز فيها لأى من الزوجين طلب التطليق في أي من الحالات الآتية:
1- زنا الطرف الآخر.
2- مضى ثلاث سنوات من إصابة أحد الزوجين بمرض نفسى أو عصبى لا يشفى.
3- صدور حكم نهائي على أحد الزوجين بعقوبة مقيدة للحرية لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات.
4- شروع أحد الزوجين في قتل الآخر.
5- ارتداد أحد الزوجين عن الدين المسيحى.
6- رفض أحد الزوجين الاتصال الجنسى أثناء الزواج لغير مانع شرعى مالم يكن هذا الرفض ناشئاً عن سلوك الزوج الآخر.
7- تقصير أحد الزوجين في واجبات المعونة والنجدة والحماية التي يفرضها الزواج عليه نحو الزوج الآخر.
8- رفض أحد الزوجين المعيشة مع الآخر مالم يكن هذا الرفض مبرراً.
9- غياب أحد الزوجين مدة لا تقل عن ثلاث سنوات بغير مبرر.
10- إصابة أحد الزوجين بمرض جنسى مُعدى أثناء الزواج.
11- إصرار أحد الزوجين على عدم الإنجاب، وخصوصاً عند اتخاذه وسائل للإجهاض.
12- ثبوت قيام الزوج باتخاذ طريقاً مخالفاً للطريق الطبيعى للاتصال الجنسى.
13- إذا فسدت أخلاق الزوج وخصوصاً إذا دفع زوجته إلى الرذيلة بقصد المتاجرة بعفافها، ولا يقبل طلب التطليق من الزوج في هذه الحالة.
14- تكرار اعتداء أحد الزوجين على شخص الآخر، أو إذا سلك أحدهما سلوكاً معيباً لا يتفق مع الاحترام الواجب للزوج الآخر، أو إذا أضر أحد الزوجين بالمصالح المالية للزوج الآخر ضرراً بليغاً بسوء القصد.
15- وجود تنافر شديد بين طباع الزوجين بما يجعل اشتراكهما في المعيشة مستحيلاً.
وبالنسبة لطائفة "السريان الأرثوذكس" أورد القانون تحت المادة (39) حالات خمس (5) يجوز لأى من الزوجين طلب التطليق في أي منها، أخص منها بالذكر الحالة الرابعة، ونصها كما يلى:
"4- استحكام النفور بين الزوجين شريطة أن يقترن بالهجر لمدة ثلاث سنوات متصلة"
وفى المادة (40) الخاصة بطائفة "الروم الأرثوذكس" يذكر اثنتى عشرة (12) حالة يجوز لأى من الزوجين طلب التطليق في أي منها، ثم يضيف إليها حالتين أخريين منفصلتين..
ونخص بالذكر من هذه الحالات، الحالات التالية:
"2- تعدى أحد الزوجين على حياة الطرف الآخر".
"12- تعرض العلاقة الزوجية إلى التزعزع الشديد بسبب الطرف الآخر، على أن يرتكز طالب التطليق على استحالة استمرار الحياة الزوجية أو إعادتها إلى سابق عهدها".
وهذه الحالات المذكورة فى المادة (38)، والمأخوذة أعلاه من المادتين (39) و(40) التي نَص عليها القانون للطوائف الثلاث: "الأرمن الأرثوذكس"، و"السريان الأرثوذكس"، و"الروم الأرثوذكس" تجتمع معاً في الحالات الثلاث التالية الواردة بالنسبة لطائفة "الأرمن الأرثوذكس"، التي يجوز فيها لأى من الزوجين طلب التطليق، وهى كما يلى بعد (كما سبق ووردت أعلاه):
"7- تقصير أحد الزوجين في واجبات المعونة والنجدة والحماية التي يفرضها الزواج عليه نحو الزوج الآخر".
"13- إذا فسدت أخلاق الزوج".
"14- تكرار اعتداء أحد الزوجين على شخص الآخر، أو إذا سلك أحدهما سلوكاً معيباً لا يتفق مع الاحترام الواجب للزوج الآخر، أو إذا أضر أحد الزوجين بمصالح الزوج الآخر ضراراً بليغاً بسوء القصد".
"15- وجود تنافر شديد بين طباع الزوجين بما يجعل اشتراكهما في المعيشة مستحيلاً".
وباستثناء هذه الحالة الأخيرة التي تعود أساساً لسوء الاختيار من أصله ومن جذوره، فالحالات جميعها تصب فيما يمكننا أن ندرجه تحت "خيانة عهد الزواج"، التي بها يقوض أحد الزوجين "عهد الزواج" كله، ويخالف أمانته مخالفة صريحة، موقعاً بالطرف الآخر سوء العذاب والظلم والغبن والضرب والشتم والاستغلال والاستعباد وسحق الكرامة.
لكننا نلاحظ بشديد الاستغراب والاستنكار والشجب أن الحالات الست "لطائفة الأرثوذكس" (الأقباط الأرثوذكس) قد خلت من حالات "خيانة عهد الزواج" خلواً معيباً، يوقع ظلماً فادحاً بحالات لا حصر لها تطلب التطليق!!!
فبحسب الإنجيل المقدس يتعين أن تشتمل المادة (37) لطائفة الأقباط "الأرثوذكس" على مادة كهذه المواد في الحالات المنصوص عليها لكل من طوائف "الأرمن الأرثوذكس"، و"السريان الأرثوذكس"، و"الروم الأرثوذكس"، المتعلقة أساساً "بخيانة عهد الزواج"..
يأتى في الرسالة الأولى للقديس بولس المختار رسولاً من اللـه إلى تلميذه تيموثاؤس في الإصحاح الخامس، الآية الثامنة، توكيداً مذهلاً لضرورة الانخلاع والانفكاك والانفصال والتطليق عمن يخون عهد الزواج ويستهين به خيانة سافرة مكينة.. قال الرسول بولس: "وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْتَنِي بِخَاصَّتِهِ، وَلاَ سِيَّمَا أَهْلُ بَيْتِهِ (أي زوجته)، فَقَدْ أَنْكَرَ الإِيمَانَ، وَهُوَ شَرٌّ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ" (1 تيمو 5 : 8).
أفليس من أنكر الإيمان قد خان المسيحية كلها، وخرج أصلاً عن إيمان المسيح؟
وهى حالة رئيسية من حالات طلب التطليق في صدر المادة (37) قبل أن يعدد القانون الحالات الست للأقباط الأرثوذكس..
أليست تلك هي حالة إنكار الإيمان؟
وأليس "إنكار الإيمان" هو "خيانة العهد"، و"خيانة العهد" هى "الزنى القلبى" الفاجر!!
وهو الزنى المستوجب الطلاق؟
إن الذى يقصده الوحى الإلهى هنا هو ذلك "الإهمال الإجرامى العمدى من الزوج للزوجة، وسلبها الكرامة، وسحقها إلى أقل من العبد، وإنكار كل حق إنسانى عليها، والاحتيال في معاملتها، والكذب بشأنها في كل شيء".
"فإن كان أحد لا يعتنى بزوجته" هو هنا اشتراط الوحى الإلهى لخيانة قلبية مكينة، (إنكار سافر للإيمان) يتحول بمقتضاها الزوج الردىء عن الإخلاص لحق زوجته في الكرامة والحياة الشريفة.. وليس مجرد " لا يعتنى" ببساطة كما يتصور الكثيرون!!!
يتعين إذن أن يستدخل القانون فوراً في المادة (37) الخاصة "بطائفة الأرثوذكس":
نصاً يفيد حدوث التطليق حال "تكرار اعتداء أحد الزوجين على حق الآخر فى العيش الآمن بالعزة والكرامة الإنسانية اللائقة"..
نصاً يفيد حدوث التطليق لدى "تعدى أحد الزوجين على حياة الطرف الآخر"، و"تَعَرُّض الحياة الزوجية إلى التزعزع الشديد بسبب الطرف الآخر، وفساد أخلاقه، ومعاملته الإجرامية اللإنسانية لشريكه في الزيجة"،
نصاً يقرر التطليق حال "أن يخون أحد الطرفين عهد الزواج المقدس بمعاملة شرسة إجرامية متصلة تستحيل معها الحياة المشتركة"..
هل يُعْقَل أن تنص المادة (37) في أحوال التطليق الواجب لطائفة الأرثوذكس على "مكاتبات مادية أو إليكترونية أو أوراق أو مستندات أو اتصالات هاتفية من أحد الزوجين أو من الشخص الآخر" كدليل على حدوث علاقة آثمة بين أحد الزوجين وشخص آخر، ولا تنص على حالة التطليق الحتمية حال حدوث "التعدى بالضرب والشتم والتحقير، وممارسة العسف والغبن والظلم، والانتهاك المتواصل للكرامة الإنسانية، ومعاملة الاستعباد، وإنكار كل الحقوق، وممارسة الإجرام والإيذاء البدنى والروحى والنفسى"؟..
هل يعقل أن تنص المادة (37) على "الوجود في حالة مريبة" لأحد الزوجين، ولا تنص على "الوجود في حالة إجرامية انتهاكية وحشية" لأحد الزوجين؟..
لا يزال هنالك بصيص من الأمل كى يستدرك المُشَرِّع الكنسى الذى وضع مُسَوَّدة القانون، عاجلاً وقبل فوات الأوان، ويُضَمِّن المادة (37) الخاصة بحالات التطليق الواجبة لطائفة الأقباط "الأرثوذكس" – أُسْوَةً بالطوائف الأرثوذكسية الأخرى- نصاً يُؤَمِّن الإنقاذ الحتمى للواقعين تحت هول الاستعباد والظلم والمهانة والهوان، الذين في زيجة العبودية والقهر.