الأتوبيس متجه من قلب باريس إلى منطقة فرساى لزيارة القصر المشهور. كنت وحيدا ضمن جماعة سائحين لا تربط بينهم صلة، سوى أنهم حجزوا الجولة السياحية عبر الإنترنت. أخذت المرشدة تصف معالم باريس، وتشرح بعض الأحداث التاريخية المرتبطة بها. انحرف الأتوبيس باتجاه ميدان الكونكورد. تحركت أعين الجميع فى اتجاه واحد، أما المرشدة فلم تقل سوى جملة قصيرة:

ها هى المسلة المصرية المشهورة.
اقترب الجميع من الزجاج لالتقاط الصور، واحتلت صدرى كتلة ثقيلة من المشاعر، عرفتُ فيها الوَنَس والفخر والغضب والألم، كانت المسلة تشع برائحة مصر، وتعلن عظمة حضارتها، لكنها كانت فى قلب باريس نسيجا وحيدا يعلن  وحشته، ربما لهذا السبب تكلم الشاعر الفرنسى تيوفيل جوتييه على لسان المسلة المصرية عام 1851 قائلا: «أشعر بالملل فى وسط هذا الميدان، مسلة غير متجانسة مع المكان، الثلج وقطرات الضباب المتجمد والرذاذ والمطر يثلج جبيني... أنا من استطعت بقامتى العظيمة تحدى الزمن ووقف رعمسيس ذات يوم أمامى كالقشة، صرت أداة تسلية فى باريس... نهر السين الذى تصب فيه بالوعات الشوارع، هذا النهر القذر المكون من جداول يلوث قدمى التى كان نهر النيل أبو الأنهار يقبّلها كل فيضان».
 
سألت المرشدة متصنعا الجهل:
من أين أتت هذه المسلة؟
من مصر.. مصر! أليست هذه الدولة فى شمال إفريقيا؟
بلى.
 
كيف إذن وصلت المسلة إلى باريس؟
سكتت مرتبكة، قبل أن تجيب بجملة سريعة وهى تبتعد: باشا مصر أعطاها هدية لرئيس فرنسا.
 
لم تود إكمال الحديث، وربما دعتها ملامحى للشك.
 
بعد هذه الحادثة؛ وقفت أمام مسلة مصرية تنير الفاتيكان فى روما، وأخرى تتوسط أحد ميادين لندن، وعلمت بالبحث أن ميادين روما وحدها تتزين بثمانى مسلات مصرية، وأن باريس تضم أربع مسلات، كما توجد مسلاتنا فى أمريكا وتركيا أيضا.
 
فى أزمنة ضعف، تمت سرقة المسلات، كآلاف القطع المهمة من آثار مصرية رأيتها فى المتحف البريطاني، ومتحف اللوفر بباريس، والمتحف الوطنى فى فيينا. غير أن مسلة الكونكورد بالتحديد كانت قد انتزعت من مكانها فى مدخل معبد الأقصر أهداها لفرنسا محمد علي، الذى أهدى مسلة أخرى لإنجلترا، ثم يأتى حفيده إسماعيل لينزع مسلة كليوباترا من ميدان محطة الرمل فى الإسكندرية، ليهديها إلى أمريكا، هكذا بدد الزمن ومن لا يملك آثارنا، لتستقر لدى من لا يستحق.
 
فى كل مرة أقف أمام تاريخنا، الذى تفرق حجره بين المتاحف، تصيبنى كتلة المشاعر نفسها إلا أننى فى كل مرة كنت ألمح شعورا عميقا بالسعادة مضفورا بالحزن؛ سببه العرض اللائق لآثارنا فى المتاحف العالمية، الذى يجمع بين الإتقان والاحترام الشديدين، وما تقوم به هذه الآثار من دعاية مستمرة لمصر خارجها، صحيح أن آثارنا المنهوبة تضم قطعا نادرة يجب السعى لاستعادتها؛ مثل رأس نفرتيتي، وحجر رشيد، وبعض التماثيل المكتملة المذهلة فى جمال نحتها، ولا توجد منها نسخ أخرى، لكن تبقى المسلات هى الأوضح والأكثر شهرة؛ إذ غالبا ما تقع وحدها ضمن الفضاء العام، لتخطف بصر من يمر بها، حتى إن لم يكن من محبى زيارة الآثار أو المتاحف، فيرفع رأسه مجبرا إلى حيث يجب النظر حين تُذكر حضارة مصر.
 
المسلة بناء حجرى تبرز على أوجهه حروف اللغة المصرية القديمة، وتشع معها رائحة عتيقة مهيبة، تتجلى لم تزل فى لون الحجر الداكن، وانتصابه ودقة نحته. يأتى حجرها من جرانيت أسوان غالبا، ويدون عليها اسم الملك وأهم إنجازاته وبعض أوجه الحياة فى هذا العصر.
 
بدأ إنشاء المسلات قبل نحو خمسة آلاف عام فى مصر القديمة، وأخذت فكرتها من حجر مقدس هرمى الشكل، كان يوجد فى مدينة عين شمس، له قمة مدببة ويسمى باللغة المصرية حجر الـ “بن بن” وكان يعتقد أن طائرا مقدسا (ربما كان طائر الفينيق) لا يحط إلا على قمم الأشجار، أو على القمة المدببة لحجر الـ«بن بن» هذا.
 
يظن علماء المصريات أنه بداية من الأسرة الخامسة (القرن ٢٦ ق. م.) أصبحت المسلات تشير إلى عملية الإشراق؛ إذ تعكس قمتها، المغطاة قديما بطبقة من الذهب، أشعة الشمس، كأنما تشرق مرة أخرى، أو كأن المسلة نفسها تحمل شمسا ثانية بعد ذلك أخذت المسلة ترمز لإله الشمس نفسه. المسلة المصرية هى الشمس حين تضيء من بقعة محددة فى الأرض نحو الفضاء، وليس العكس.
 
يصل طول المسلة أحيانا إلى ثلاثين مترا، وتقف على قاعدة مربعة عريضة. لكن الناظر من بعيد لن يرى سوى الجسد الحجرى الرشيق مرتفعا وحده، ما يدعو للتساؤل: كيف يقف متوازنا بهذه القوة، كأنما تثبته جذور ممتدة خفية لا نراها، لتمنحه ثقة الامتداد برشاقة آسرة نحو الأعلى؟ وما الرسالة التى تحملها المسلة المصرية؟ وبعيدا عن تأويلات مفرطة، ترى أن المسلات كانت أعمدة نقل للطاقة الكهربية النظيفة، التى اكتشفها المصريون القدماء، تبقى المسلات مُشعّة بطريقة أخرى كما أراد لها الرمز القديم: أنها تتصل بأرضنا، كأنما تتشرب ما نبت فيها من أحداث وتعاليم وقيم ومعارف، ثم تبعث بها نحو الأعلى شمس تخص هذه الحضارة دون سواها، يحملها نبت حجري، لتشع بما امتصه هذا الحجر من أرض “كيمت”/ مصر إلى العالم كله.
 
فى كل مرة تلوح لعينى مسلة مصرية فى عواصم أوروبا، كنت أتساءل متألما: لماذا تخلو الميادين الكبرى فى عاصمة «مصر» من المسلات؟
 
حين بدأ الاحتفال بنقل المومياوات الملكية، لم يتوقع أحد ما حدث بعده من دهشة فتحتْ شرايين الوعى بحضارتنا دون سابق إنذار، ضربت أرواحَنا مشاعر عميقة وحقيقية بالانتماء والفخر، وزلزلتنا شحنة من الوعى المفاجئ بما نملك، وبما نهدر أيضا ربما لم يتوقع أحد ما أثارته تلك الاحتفالية فى عموم العالم، وفى مصر خاصة، لكن تفاصيلها جميعا مثلت مفاجأة سعيدة، ابتلعت أي ملاحظات سلبية هامشية. جاءت الموسيقى وما صاحبها من أداء تعبيرى راقص فى الصدارة، خصوصا عودة أصوات اللغة المصرية فى إنشاد السوبرانو أميرة سليم القوي، مضفورا بشموخ صوت نسمة محجوب، ودفء صوت ريهام عبد الحكيم، ثم دخول الربابة والناى ضمن الأوركسترا فى تنوع متناغم، هو انعكاس مهم لمعنى مصر، ولقيمها وفنونها المتنوعة لكن أكثر ما أخذ عينى كانت المسلة.
 
أخيرا، مسلة مصرية مهيبة فى أكبر ميادين العاصمة، تحيط بها الكباش الحامية، وتدور حولها احتفالية كأنها طقس إحياء قديم، يكشف عن الجذور الممتدة إلى الجسد الحجرى الشامخ، لتمنحه الحياة وتحفظه من السقوط جذور تليق بحضارة مصر، وتعلن قيم جعلتها فريدة منذ القدم: العلم والعدل والسلام والضمير والتنوع والقبول بالآخر ليست مصر سوى فكرة جامعة للقيم السابقة، احتضنتها هذه البقعة من الأرض، وشهدت تحققها فى فترات كثيرة من التاريخ.
 
مصر كيان ثقافى حضاري، يمكن لمن شاء أن ينتمى إليه، وأن يدخل فى نسيجه، الذى تمكن من ابتلاع كل ما طرأ عليه، وهَضْمِه وتنقيته من شوائب كثيرة قال البعض إن هند صبرى تونسية، ونصف نيللى كريم روسي، ولم أفهم ما علاقة ذلك بكون هند ونيللى مصريتين حتى النخاع؟ أهى أوراق ميلاد وهوية سفر ما يحدد الجنسية، أم وعى وقيم وروح تعشق المكان وثقافته، وما يشع فيه من أمان ودفء وفن ومعرفة وإنسانية؟ ليست مصر عرقا بعينه، بل هى ثقافة أرادت لنفسها من القدم أن تكون مرادفا للقبول بالآخر، والسلام، والتسامح، والعدل، والضمير، والعلم، رغم ما يعتريها أحيانا من تصلب وجمود طارئين مهما طال بهما الزمن.
 
حين تنفتح مصر تنتعش حضارتها بالتنوع، ويصيبها الجمود ويتفشى الجهل حين تنغلق، فتعادى نفسها وفى الاحتفالية كان الوعى عميقا بهذا المعنى؛ ظهرت فى ملامح المصريين التى تشبه نقوش المعابد على تنوعها، وفى هند ونيللي، وفى انطلاق أطفال من كل شكل ولون نحو المسلة، ليضيء الميدان بهم ولهم. وظهر أكثر حين جاءت خيوط النور من الأرض حول المسلة، كهرم مضيء نبت من تربة مصر، حاملا قيمها ومعارفها، ليتجمع فى شمس تسكن قمتها، ثم ينقلب الهرم من أعلى نقطة فى المسلة، مطلقا أشعة شمسه نحو السماء الرحبة، باعثا بنوره للعالم أجمع لقد كانت المسلة بإضاءتها الواعية رمزا لمصر وحضارتها القديمة، وللقيم التى نسعى لإعادة إنباتها.