«جميع عملائنا مشغولون الآن برجاء الانتظار»، هكذا يأتيك صوت السيدة الذى صار جزءا من حياتنا وأنت ممسك بالهاتف وتحاول تعلم الصبر، ثم بعد مرور الوقت تتحول الجملة إلى «هذه المكالمة قد تكون مسجلة حرصا على مستوى الخدمة». بعدها مباشرةً يأتيك صوت آخر يُعرفك باسمه على عجالة ويسألك عن مشكلتك أو ما يمكن تقديمه لك. هنا قد تقع لحسن الحظ على شخص كالبلسم أو مارد مصباح علاء الدين، وفى حالات أخرى كثيرة قد تقع على من يزيد من توترك وقلقك دون أن تصل لشرح مقنع أو جواب وافٍ. يرتفع صوتك أحيانا وتشتعل غضبا حين تشعر أن موظف خدمة العملاء لا يسمعك وصار يتعامل مثل الإنسان الآلى، يحفظ إجابات بعينها ويرددها بصرف النظر عما تقول، وهو موقف قد ينجم عن سوء تدريب واختيار وقلة خبرة، ولكن قد يحدث أيضا لأنك تتعامل مع شخص لم يعد قادرا على الجلوس لمدة سبع أو ثمانى ساعات وتلقى حوالى ستين اتصالا يوميا، وفق تقديرات المتخصصين.
تفهم أن ما الدنيا إلا كول سنتر كبير! تسأل وتسأل وتنتظر أن يجيبك أحد، أن تأتيك البشارة، وينبغى التذرع بالصبر أو بأعذار واهية لتقبل الواقع. تخيل نفسك من هؤلاء الذين يجلسون فى مكان ما على الكوكب للرد على عملاء شركات بعضها غير موجود فى مصر، بل على بعد آلاف الأميال. اكتسب بعضهم بالممارسة ومرور الوقت مهارة عمل أكثر من شيء فى الوقت ذاته: الرد على العميل وتفحص بياناته وغلق ملف وفتح آخر وتقديم شكوى أو الرجوع للدعم الفنى. وفى الخلفية أثناء المكالمة تسمع أحيانا أصداء أصوات موظفين يتسامرون ويضحكون ويعلقون فيما بينهم على موقف عميل أو طريقته فى الكلام. صاروا مثل العامل الذى يشتغل فى مصنع على خط الإنتاج نفسه منذ سنوات. هو يكرر الحركات بشكل تلقائى اعتاده المخ منذ زمن، فموظفو الكول سنتر أو مراكز الاتصال والخدمة يكررون العبارات نفسها، مع الفارق أن عامل المصنع يقف وسط ماكينات أما موظف الكول سنتر فهو يتفاعل مع بنى آدم مثله قد تكون ردود أفعاله غير متوقعة أو سخيفة، لذا يجب أن يكون أكثر حنكة فى التعامل ويحتاج إلى أقصى درجات ضبط النفس لكى لا يرتفع صوته عن الحد المسموح.
***
نبرة الصوت ولهجة الحديث هما عنصران أساسيان يتوقف عليهما الكثير فى لعبة التواصل، ففى بعض الأحيان مجرد طريقة كلام موظف خدمة العملاء أو مندوب المبيعات تجعلك ترفض كل ما يقول وتتخذ ردة فعل عدائية، وفى أحيان أخرى تكون كفيلة بأن تغير مزاجك تماما وتنقلب من الصخب للهدوء. هناك رأى يقول إن الابتسامة تُسمع من خلال الصوت، فالعميل يشعر بها على الجانب الآخر من الهاتف، وعادةً يتصل العملاء للتذمر من أمر ما، وبالتالى هم فى حاجة لمن يطمئنهم ويمتص غضبهم ويساعدهم على إيجاد حل، وهو ما لا يتوافر على الدوام.
وذلك لأننا بصدد عمل يضع الشخص تحت ضغط دائم، فمن المفترض أن هناك من يراقب المكالمات للمحاسبة ومن يسجل أرقام المبيعات فى حال كون المهمة تجارية، وهناك من يقيس القدرة على الإقناع ويتأكد أن المكالمة لم تخرج عن النص المحدد مسبقا، وهو ما يستنزف العاملين فى مثل هذه الوظائف، فبمرور الوقت يعانى بعضهم غالبا من التعب والتوتر واضطرابات النوم ولا يستمر فى مهنته أكثر من ثلاث سنوات، يشعر بعدها أنه كالليمونة المعصورة.
***
لهذه الاعتبارات تجذب تلك الوظائف الشباب الذين يرغبون فى عمل مؤقت ومجزٍ إلى حد ما، خاصة مع انتشار مراكز الاتصال والخدمة فى مصر منذ بداية الألفية الثانية وعصر الإنترنت. لم نصل بهذا المجال لمكانة دولة مثل الهند التى نقلت إليها العديد من الشركات العالمية أنشطة التواصل مع مندوبيها عبر الكول السنتر، إلا أننا بحكم موقعنا الجغرافى وإمكاناتنا البشرية والتقنية صرنا فى مرتبة متميزة. يجلس الشاب فى القرية الذكية مثلا ليرد على متصل لديه مشكلة مع واحدة من كبرى شركات البرمجيات والحواسب فى العالم التى يوجد مقرها الرئيسى فى واشنطن. يتحدث الإنجليزية بطلاقة ولا يمكن تحديد لكنته بسهولة، لحسن حظه تم تدريبه بشكل جيد وتتوافر لديه المعلومات اللازمة التى تمكنه من الرد على الزبائن. قد ينتقل للعمل فى مدينة أخرى فهذه المراكز تنتشر أيضا خارج العاصمة فى الجيزة والإسكندرية والسويس والأقصر والغردقة وشرم الشيخ. يردد زملاؤه أيضا جمل شبيهة بـ«جميع مندوبينا مشغولون الآن من فضلك الاتصال فى وقت لاحق» بلغات مختلفة، فهى إحدى جمل العولمة التى تتردد فى الفضاء الواسع، وأحيانا رغم كل التفاؤل يتحول الاتصال إلى حديث طرشان، ويحاول العميل التعبير عن وجهة نظره عبثا، ويحاول الشاب الذى يعمل فى الكول السنتر أن يتفهم كل هذا الحنق موجه للشركة العملاقة وليس لشخصه المتواضع.