عاطف بشاي
كثير من الانطباعات فيما يتصل بالمستوى الفكرى والفنى للدراما التليفزيونية فى السباق الرمضانى تفرض علىّ طرحها ومناقشتها فى السطور التالية.. وهى لا تمثل أحكاما نقدية قاطعة أو تحليلا منهجيا صارما، بقدر ما تعبر عن رؤية عامة وملاحظات مختلفة، تعكس تصورات تحتاج إلى دراسات دقيقة أرى أنها لازمة وضرورية. أول هذه الانطباعات يتركز حول إيجابية خاصة بتقدم وتطور تكنيكى واضح وجلى فى مستوى التصوير والإضاءة والمونتاج والديكور والصوت واستخدام الحيل المرئية التى تنافس الإمكانيات السينمائية.
وتضييق مساحات الفروق الجوهرية التى كانت تميز فنون السينما عن فنون «الفيديو».. يتم ذلك من خلال مجموعة من شباب مديرى التصوير ومديرى الإضاءة والمونتيرين ومهندسى الصوت والديكور الذين يمثلون جيلا جديدا واعدا يتميزون بالمهارة ويعدون بتفوق فنى ملموس.. ذلك بصرف النظر عن مستوى المحتوى الفكرى، بل على العكس فإن المفارقة التى تفرض نفسها- للأسف- أن هناك تناقضا واضحا بين التقدم التقنى والإبداعى فى تلك الفنون وبين التراجع الكبير فى المحتوى الفكرى.. أو بين الشكل والمضمون.. ويبدو ذلك التناقض جليا فى الأفكار والموضوعات والقضايا الاجتماعية والسياسية والإنسانية التى تطرحها تلك المسلسلات والتى تظهر فى معظم الأحوال بعيدة كل البعد عن واقع حياتنا المعاصرة وإشكالات مجتمعنا، وهموم الإنسان المصرى واهتماماته، وتفاصيل معاناته الحياتية، والتأثيرات المتبادلة بينه وبين البيئة المحيطة.
تلك القضايا والاهتمامات التى كانت تميز كتابات المؤلفين الكبار من الرواد فى مجال القصة والسيناريو والحوار: أسامة أنور عكاشة ورحلة بحثه عن الهوية المصرية.. صراع الشرف والضمير فى مواجهة البلادة والتسيب.. المنازلة بين القبح والجمال فى نفوس البشر.. التمسك بالمبادئ فى زمن اختلال القيم.. «وحيد حامد»... تعرية الإرهابيين الذين يرتدون مسوح التقوى وأردية الإيمان «يسرى الجندى» فى استلهام التراث مسقطا دلالاته.. ورموزه على عصرنا.. «جلال عبدالقوى» وبحثه عن تمزق أبطاله وعذاباتهم من خلال ثنائية أطماع البشر.. وأشواق الروح.. «بشير الديك» والتحامه بإشكالات واقع متغير وانقلاب السلم القيمى.. وأنا. إن معظم مسلسلات هذا العام والأعوام السابقة، إلا القليل منها، لا تترك أثرا، اللهم إلا شيوع القبح وتقلص الجمال والأفكار العميقة والبراقة.
وجهل الكتاب بالمعارف والثقافة العامة.. وأصول البناء الدرامى.. وما يتصل بذلك من آفة جديدة، هى انطباعى الثانى فى هذا المقال، هى انتشار تلك اللغة الجديدة المتدنية التى لا علاقة لها بلغتنا العربية الجميلة بشقيها (الفصحى والعامية)... وهى لفة منحطة تفشت تفشيا خطيرا، وأصبحت تشمل كل البيئات والطبقات والشخصيات الدرامية فى المسلسل الواحد. لقد جاء طوفان تلك المسلسلات فاقدا طموح التطوير الفكرى والفلسفى والارتقاء الإبداعى والرؤى المغايرة والتجديد الذى يدفع إلى التنوير والإصلاح وخلق تيارات تدعم التحضر والتقدم والرقى الإنسانى.. لكنه جاء على طريقة «اهبش الفرصة هبشا» و«انسف اللغة العربية نسفا».. و«انسى وخد البنسة» و«عبى السبوبة» بالبذاءة على يد رهط من شباب «الورش» و«الفورمات»، يحاكون لغة الشارع المسفة، ويصادقون القبح بوصفه جمالا، ويسرقون الكحل من العين.. والمسلسلات من «التراكوة» و«الهنود» وأخيراً من الإيطاليين.
الانطباع الثالث اختفاء الناقد الحقيقى المثقف الأكاديمى، ذلك الناقد الذى يلقى الضوء على النص الدرامى ويحلله فكريا وسياسيا واجتماعيا ونفسيا وفلسفيا وفنيا، ويفسر مغزاه ويستخلص منه العبرة والهدف.. ويفك رموزه.. ويضع يده على مفاتيحه.. ذلك بعد رحيل بعض الكبار أو توقفهم عن الكتابة فلم يتبق إلا القليل من المخضرمين المجيدين.. وانتشر نقاد العلاقات العامة.. ونقاد الصدفة.. وغيرهم.
النقد فى زماننا يعيش أزمة طاحنة..
Atef.beshay@windowslive.com
نقلا عن المصرى اليوم