الأنبا إرميا
عاصر «المستنصر» أربعة آباء بطاركة: البابا شنودة الثانى (١٠٣٢-١٠٤٧م) (الـ٦٥)؛ والبابا خرستوذولوس (١٠٤٧-١٠٧٧م) (الـ٦٦)؛ والبابا كيرلس الثانى (١٠٧٨-١٠٩٢م) (الـ٦٧)، والبابا ميخائيل الثانى (١٠٩٢-١١٠٢م) (الـ٦٨).
البابا شنودة الثانى (١٠٣٢-١٠٤٧م)
الخامس والستون فى بطاركة الإسكندرية. لحِق بحكم الخليفة «الظاهر»، ثم عاصر زمنًا من حكم الخليفة «المستنصر» (١٠٣٦-١٠٩٤م). فبعد نياحة «البابا زخارياس» الرابع والستين فى بطاركة الإسكندرية، وخلو الكرسى المَرقسى، تردد الأساقفة فى اختيار من يصلح خلفًا له؛ وأخيرًا استقر رأيهم على أحد رهبان «دير القديس مقاريوس» بوادى النطرون يدعى «الراهب شنودة»، وكان من أهل تلبانة من مدن مركز المنصورة بمحافظة الدقهلية، وقد ترهب وعمره أربعة عشر سنة؛ وقد ذكر ساويرس ابن المقفع فى تاريخه: «وقيل إن شنودة هذا كان مشتهى لهذا (البطريركية) وكان قد التمس أسقفية مصر ولم يكن معه شيئًا يدفعه عن ذلك فطردوه وجعلوا فيلاتاوس أسقفًا على مصر..».
كما ذكر بعض المؤرخين أنه قدم لرتبة القمصية بعد اختياره للبطريركية، ثم ساروا به إلى «الإسكندرية» لسيامته بطريركًا، وكان ذٰلك فى عصر الخليفة الظاهر. وفى تلك الأيام، حدث أن رجلًا قبطيًّا يسمى «بقيرة الرشيدى»، أحد المقربين لبيت الحكم، اصطحب معه بعض أكابر الأقباط إلى الخليفة كى يستصدروا منه أمرًا بالموافقة على تنصيب البابا، فاستجيب إلى طلبهم، إضافة إلى التنازل عن المبلغ الذى كان يُدفع لبيت المال فى مثل تلك المناسبة ويقدر بـ ٣٠٠٠ دينار (وذكر بعض المؤرخين أنه ٦٠٠٠ دينار).
كان فى وقت ترشيح «الراهب شنودة» أن اشترط عليه كهنة «الإسكندرية» أن يقدم لهم الأموال التى تحتاجها كنائسها (٥٠٠ دينار كل عام). كذلك طلب إليه أعيان المسيحيين أن يرفض «السيمونية» وهى قبول أموال من الذين يُرسمون كهنة أو أساقفة. ويذكر المؤرخون أن «الراهب شنودة» لم يلتزم بتلك التعهدات بعد سيامته بطريركًا، بل تملكته محبة المال ومجد العالم؛ فرغب فى جمع الأموال بشدة حتى كنزها لنفسه وأعطى أهله كثيرًا منها؛ وكان لا يرسم أسقفًا إلا بأخذ مال من المتقدم للأسقفية، كواقعة «القس يوحنا» الذى فشل فى الحصول على رتبة الأسقفية فى عهد «البابا زخارياس».
ثم استطاع فى رئاسة «البابا شنودة الثانى» أن يصير أسقفًا على إيبارشية «الفرما» (العريش)، كما ذكر عنه أنه رسم أسقفًا بدير أرشى بابا أسيوط بعد أن أخذ منه أموالًا كثيرة ولكن منعه أهل أسيوط من الدخول إلى أسيوط مدة ثلاث سنوات لأجل المال الذى دفعه متمسكين بالقوانين الكنسية: أنه لا يجوز لمقدم ولا كاهن الذى يؤهل نفسه لله أن يدفع عن ذلك مالا، ولا يأخذ ممن رسمه لخدمة الله شيئًا كقول السيد المسيح لتلاميذه: «مجانًا أخذتم مجانًا أعطوا»؛ فعاد الأسقف إلى البطريرك وطالبه بالمال الذى دفعه، أو أن يأمر الشعب بقبوله أسقفًا، فلم يقدر أن يفعل له شيئًا ولم يعد له المال، وكثير من تلك الأمور. كذلك أصدر «البابا شنودة الثانى» قرارًا بأن تؤول جميع مقتنيات الأساقفة إلى البطريركية بعد نياحتهم، وكان أول من نفذ عليه ذلك القرار أسقف «شنان» الذى ما تنيح حتى أرسل البطريرك فأخذ داره، ويذكر ابن المقفع: «فحضر أخوه وسأله (البطريرك) وتضرع إليه أن يعطيه الدار خالية ويأخذ كل ما فيها فلم يلتفت له وأحوجه»، وقد قاضاه أخو الأسقف الذى ترك دينه حتى أخذ الدار.
وفى السنة الثانية لرئاسته، رفض دفع الإعانة لكنائس الإسكندرية؛ فتفاقمت المشكلات بينه وبين كهنتها، حتى إنهم أقاموا دعوى فى مجمع حضره كبار رجال القبط، وانتهى الاجتماع نهاية محزنة جدًّا. وظل الأب البطريرك فى أفعاله تلك حتى نياحته.
يذكر أنه كان حادّ الطباع يسىء معاملة الناس. وفى أيامه قلت مياه «النيل» وانتشر الفقر وانتشرت الفئران فى بقاع مصر وأفسدت المحاصيل والطعام والشراب. ثم أصيب فى آخر أيامه بصداع شديد مع سعال، وظل مريضًا ثلاث سنين، وقد ذكر عنه القس «منسى يوحنا» فى كتابه تاريخ الكنيسة القبطية: «وقضى بقية حياته مبغوضًا حتى أدركته المنية». وتنيح عام ١٠٤٧م بعد أن قضى على الكرسى المرقسى 14 عامًا و7 أشهر وبضعة أيام؛ وقد اختير من بعده «البابا خرستوذولوس».
و... والحديث فى «مصر الحلوة» لا ينتهى!
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم