مراد وهبة
عندى حكايات عديدة عن العلمانية أسرد منها ثلاثًا:
الحكاية الأولى بدايتها فى 16 يونيو من عام 1982، عندما تسلمت خطابًا من المستشار الثقافى بالسفارة الأمريكى يخبرنى فيه بأن وكالة الاتصالات الدولية بأمريكا قد عينت لى مسؤولًا لترتيب لقاءات مع أساتذة فى الجامعات الأمريكية وفى كليات اللاهوت. وكان من بين الذين التقيتهم أستاذ علم الاجتماع بجامعة بوسطن بيتر برجر، وهو مشهور بأنه كان علمانيًا، ثم أصبح أصوليًا. وفى بداية حوارى معه قلت له: لماذا أصبحت كذلك؟ فقال: إنه العالم الثالث الذى كان لديه إحساس ببؤس الحداثة الذى أفضى بدوره إلى بزوغ سلفية جديدة غاضبة من الحداثة. ومن هنا تلزم مراجعة القول إن الحداثة قد تحققت وبلا رجعة إلى الوراء. والمغزى أن مقاومة الحداثة ملازمة لبزوغ الحداثة، بل إن هذه المقاومة قد تٌغير مسار الحضارة أو تؤخر تقدمها. وكان ردى على برجر أن الحضارة تتقدم بأسلوب لولبى، وهو يعنى تراجعًا مؤقتًا للحداثة يعقبه تقدم أقوى. وهذا هو ما يسمى بديالكتيك الحداثة، أى التناقض بين قبول الحداثة مع رفض هذا التناقض بتحريكه إلى الأمام وليس إلى الخلف. والأصولية، فى هذه الحالة، هى المفوضة لإحداث هذه المقاومة.
والحكاية الثانية بدايتها فى عام 1981 عندما عقدت «المجموعة الأوروبية العربية» مؤتمرها الرابع فى روما تحت عنوان أساسى «الشباب والعنف والدين». وعنوان فرعى «نماذج من العلمانية واللاعلمانية فى أوروبا والعالم العربى». وقد كنت فى حينها مسؤولًا عن تنظيم المؤتمر، ثم طبع الأبحاث باللغتين الإنجليزية والعربية. وعند الطبع فى إحدى المطابع الخاصة بالقاهرة رفض صاحب المطبعة جمع حروف العنوان الفرعى للمؤتمر وهو «نماذج من العلمانية واللاعلمانية» فى طبعته العربية. وعندما سألته عن سبب الرفض قال: إن لفظ «علمانية» مجَرم ومحَرم من قِبل الدولة، وبالتالى يلزم حذفه. قلت: ولكنك طبعت أعمال المؤتمر باللغة الإنجليزية وعلى الغلاف لفظ «علمانية» قال: قراء اللغة الإنجليزية يبيحون تناول لفظ علمانية، أما قراء اللغة العربية فهم على الضد من ذلك. قلت: لكن أبحاث المؤتمر، سواء فى الطبعة الإنجليزية أو الطبعة العربية، وارد فى عنوانيها لفظ «علمانية». قال: هذا لا يهم، لأننا «هنا فى مصر» نهتم بالشكل دون المضمون. والمهم هو الشكل الخارجى للغلاف، وهو أن يأتى خاليًا من لفظ «علمانية» وقد كان، إذ صدرت الطبعة العربية على نحو ما ارتأى صاحب المطبعة. والحكاية الثالثة والأخيرة هى امتداد للحكاية السابقة وبدايتها منذ عدة سنوات عندما هاتفنى مسؤول من وزارة الثقافة ليستأذن فى طبع الترجمة العربية للمؤتمر المذكور سابقًا فوافقت بلا تردد. وبعد سنوات تسلمت بروفة من المطبعة لمراجعة التصويبات. ولكنى فوجئت على الصفحة الأولى من الكتاب بما يفيد بإخبارى بأن عشرين صفحة من الكتاب غير موجودة والمطلوب تصوير بديل عنها. فاستجبت، ولكنى تساءلت: كيف تكون هذه الصفحات غير موجودة لأن عدم وجودها معناه أنها انتزعت من الكتاب قبل بداية البروفة، أو اختفت بفعل فاعل؟ ومع ذلك لم أطلب جوابًا لأن المهم عندى هو إصدار الكتاب إن عاجلًا أو آجلًا.
نقلا عن المصرى اليوم