خالد منتصر
كان هناك من يعيب على نجيب محفوظ، أعظم روائى مصرى وعربى، أنه موظف روتينى ملتزم، يعشق وظيفته ويوقع فى دفتر الحضور والانصراف، وظل رغم كتابته للرواية موظفاً حتى سن المعاش، مثله مثل أى موظف مصرى فى أى مصلحة حكومية، وكان مبرر من ينتقد نجيب محفوظ هو أن الفن لا يحب تلك القيود الوظيفية التى يعتبرها خصماً من رصيد وطاقة إبداعه. وأنا على العكس أرى أن سر نجاح وتألق ونجومية وتأثير هذا العملاق أنه كان موظفاً، وأنا أتحدث عما هو أهم من موظف فى هيئة السينما أو فى الحكومة، أتحدّث عن نقله لروح الموظف لحياته وطريقة كتابته.
سر نجاح نجيب محفوظ أنه كان موظفاً مخلصاً عند مؤسسة موهبته! موظف ملتزم تحت إدارة السيد المدير «موهبة»، أفندى. صديقه الكاتب الساخر محمد عفيفى كان ذكياً ولماحاً حين أطلق عليه لقب رجل الساعة من شدة التزامه ودقة مواعيده، كانت مواعيد الكتابة لديه مقدسة، يجلس أمام القلم والأوراق ملتزماً من الساعة كذا للساعة كذا حتى ولو لم يكتب حرفاً أو حتى لو مزَّق كل ما كتب، المهم هو أن يكون الموظف الميرى الأمين فى إدارة أرشيف موهبته الفياضة، يوقع فى دفتر الحضور والانصراف الإبداعى، ثم ينطلق ليجالس ويسامر أصدقاءه، القراءة وشحن البطارية الإبداعية لهما ميعاد، المقهى له ميعاد، مكتب الأهرام له ميعاد، النوم له ميعاد، استثمر وقته وكأنه أعظم رجل أعمال أو أشهر مدير بنك، فأنتج لنا كل هذا الكم من الروايات الخالدة المدهشة فى جمالها وعذوبتها وتنوعها، هذا درس من نجيب محفوظ لأى شاب يبدأ حياته، كن موظفاً مخلصاً عند موهبتك، وقد كتب الروائى ماريو بارجاس يوسا، وهو من بيرو ويُعد واحداً من أشهر روائيى العالم، كتب عن هذا المعنى فى كتابه المهم «رسائل إلى روائى شاب» حين قال:
«أظن أن من يدخل اﻷدب بحماسة من يعتنق ديناً، ويكون مستعداً ﻷن يكرس لهذا الميل وقته وطاقته وجهده، هو وحده من سيكون فى وضع يُمَكِّنه من أن يصير كاتباً حقاً، وأن يكتب عملاً يعيش بعده. أما ذلك الشىء اﻵخر الغامض الذى نسميه الموهبة، النبوغ، فلا يولد -على اﻷقل لدى الروائيين- بصورة مربكة وصاعقة، (وإن كان ذلك ممكناً أحياناً لدى الشعراء والموسيقيين. والمثالان الكلاسيكيان على ذلك هما رامبو وموزارت بالطبع). وإنما يظهر عبر سياق طويل، وسنوات من الانضباط والمثابرة. لا وجود لروائيين مبكرين، فجميع الروائيين الكبار والرائعين كانوا فى أول أمرهم (مخربشين) متمرنين، وراحت موهبتهم تتشكل استناداً إلى المثابرة والاقتناع، وإنه لأمر مشجع جداً -أليس كذلك؟- بالنسبة لشخص يبدأ الكتابة، أن يطلع على مثال أولئك الكتّاب الذين راحوا يشيدون موهبتهم، على العكس من رامبو الذى كان شاعراً عبقرياً وهو فى أوج المراهقة وإذا كان هذا الموضوع، أى تشكل النابغة اﻷدبى، يهمك، فإننى أنصحك بمراسلات فلوبير الضخمة، وخصوصاً رسائله إلى عشيقته لويز كولى بين عامى 1850 و1854، وهى السنوات التى كتب خلالها روايته الفذة اﻷولى (مدام بوفارى). أنا شخصياً استفدت كثيراً من قراءة تلك المراسلات عندما كنت أكتب كتبى اﻷولى. وبالرغم من أن فلوبير كان شخصاً متشائماً، ورسائله تنضح بالشتائم ضد اﻹنسانية، إلا أن حبه للأدب كان بلا حدود. ولهذا اضطلع بميله كمحارب صليبى، مستسلماً له نهاراً وليلاً، باقتناع متعصب، فارضاً على نفسه متطلبات إلى حدود لا يمكن وصفها، وبهذه الطريقة تمكّن من الانتصار على نقاط قصوره».
نقلا عن الوطن