عاطف بشاي
تقدم الناقدة القديرة «د. عزة هيكل»، فى كتابها الفريد «فى الأدب المقارن»، بحثًا مهمًا شديد التميز فى قضية تصفها بأنها بالغة التعقيد والصعوبة لتنوع وتشعب المدارس النقدية والفكرية عبر ثقافات متباينة قد تتشابه أو تتنافر.. تتقابل أو تتباعد بعد ظهور حركات الحداثة وما بعدها، والتى تشمل المقارنة بين الثقافات من خلال المنظور الاجتماعى والتفسير السياسى عبر المدارس النقدية المختلفة والثقافات الملائمة لكل عمل دون الآخر.
والحقيقة أن الدكتورة عزة برعت فى دراستها البحثية فى الإبحار العميق فى دروب متشابكة.. ومنعطفات متقاطعة بمهارة وذكاء.. وبأسلوب رشيق وسلس يتصف بوضوح الرؤية وتجاوز التعقيدات التى تغلب المناهج التى تعتمد على النظريات الجامدة والقوالب الأكاديمية السائدة، لتنتصر بروح المبدعة فى أن تسبر أغوار العمل الأدبى وأسراره الخلاقة فى تزاوج جميل بين النظرية النقدية وتفسيراتها المختلفة.. وبين الرؤية الفنية للمؤلف برحابتها وألقها دون أن تصدر أحكامًا مسبقة أو تقحم آراء جاهزة أو أفكارًا معلنة أو تصورات مبتسرة.. إنها تخوض تجربة تشارك فيها الأديب رحلته الإبداعية بسحرها وألقها وتجلياتها.. فى وضوحها وغموضها.. فى رصانتها وشاعريتها.. فى ألوانها وظلالها.. فيصبح البحث بمثابة علاقة جدلية خصبة وممتعة بين المبدع والناقد. هى فى النهاية- كما يرى «د. على الراعى»- علاقة حب بين النص ونقد الناقد..
يتضح ذلك جليًا فى الفصل الخاص بأعمال «د. يوسف إدريس» (القصة القصيرة «أمه» نموذجًا)، حيث ترى «د. عزة» أن عالم «يوسف إدريس» فى المجموعة القصصية التى وردت بها القصة هو عالم جديد من الاهتمامات والأساليب التى تناقش تجربة الإنسان فى مواجهة الطبيعة البسيطة والشرسة من حوله، فيلجأ إلى التأمل السيكولوجى والتفكير الفلسفى لعلاقة الإنسان بالواقع والحياة من حوله.. والحقيقة أن إعجابى باختيار «د. عزة» لقصة «أمه»، التى تعكس تميز «يوسف إدريس» فى فن القصة القصيرة سببه أن القصة يمكن من خلالها كشف مدى رحابة عالم ذلك العبقرى وثرائه وخصوبته، حيث يتركز فنه فى التقاط اللحظة و«الخاطرة» وحركة الصورة المرئية.. والقدرة المدهشة على رصد التفاصيل الموحية بحس مبهر وصادق وبالغ الشفافية والإنسانية.. والحقيقة أننى حينما قرأتها استولت على جماع مشاعرى.. بل هزت كيانى كله.. وحلمت مرارًا بتحويلها إلى سيناريو فيلم روائى قصير.. ولكننى اكتشفت فى النهاية صعوبة ترجمتها إلى صورة مرئية.. فعمقها الأخّاذ وخيال مؤلفها الجامح يتخطيان ويتحديان قدرة أى كاتب سيناريو على تجسيدها.
القصة بطولة شجرة أم الشعور العتيقة على ضفاف النيل.. يلجأ إليها طفل بائس يتيم وفقير طرده زوج الأم من منزل أبيه الريفى بعد وفاته وتخلت عنه أمه.. فخاض رحلة شاقة مريرة بمفرده إلى القاهرة.. وتعرض لمواقف غير إنسانية، منها الجوع والإيذاء الجنسى والعنف والخوف.. واستعاض بالشجرة عن أمه كمأوى له.. فأصبحت أمه الحقيقية.. ينام فى حفرة فى جوفها.. تحتضنه بفروعها التى تنمو يومًا بعد يوم لتحتويه فى دفء وحنان، بينما يتكور هو كجنين داخلها.
وتلتقط «د. عزة» ببراعة فحوى المشهد الزاخر بالصور الوصفية والمرئية فى تحليل بليغ، فتؤكد أن النص يصل إلى ذروة التأمل المشوب بالنشوة، وقد نجح «إدريس» فى تصوير اللقطات ورسمها بأسلوب متعمق يبرز السعادة ويبلور الفرحة التى بدأت تسرى فى جسد الطفل والشجرة معًا، فاستخدم التعبير الميلودرامى الذى يجسد قوة الطبيعة خارج حياة الطفل وحنانها فى داخل فتحة الشجرة التى تتحول إلى أم طبيعية لها جسد ورحم وصدر يحنو على الصغير ويحميه، ويقول «يوسف إدريس» إنه أحبها أكثر مما أحب أمه.. لقد كانت الحضن والبيت والظليلة والعائلة وكل ما يمت له بصلة فى الدنيا.. فانتمى إليها تمامًا وأصبحت ملجأه وملاذه من العالم الخارجى الشرير، ويكبر الطفل ولم تعد الحفرة تتسع له.. فيخرج من رحمها إلى الشارع، ويعمل صبيًا فى ورشة، ويتقاسم مع صبى آخر حجرة فى زقاق.. وتمر السنوات حتى يشتاق إلى زيارة أمه الشجرة.. يذهب إليها.. ويقف مشدوهًا يرقبها ليجد أوراقها الخضراء وقد جفت وأعضاءها الجديدة والقديمة تخشبت كما لو كانت قد ماتت.. وأحس بغصة ما قبل البكاء.. وبكى.. بكى أمه.
الكتاب يجمع بين التوثيق والتحليل، فقد استطاعت مؤلفته القديرة أن تحول مادته البحثية الصعبة، التى تعتمد على تاريخ تطور حركة الأدب المقارن عالميًا ومحليًا وتبايُن اتجاهات مساره، إلى رؤية إبداعية حافلة بالاحتفال بدور الأدب الرفيع فى رحلة شائقة ومبهرة.
Atef.beshay@windowslive.com
نقلا عن المصرى اليوم