بقلم: محمود يوسف بكير
طوال الـ 27 عامًا الماضية لم أنقطع عن زيارة موطني مصر، وأحيانًا يصل عدد زياراتي لبلدي الحبيب إلى ست مرات في العام الواحد ومن ثم فإنني من الناحية العملية لم ابتعد أبدًا عن مصر وشعبها ذا الغالبية الطيبة والمستضعفة والمستكينة وأسعى دائمًا قدر طاقتي أن أمد يد العون لكل من أعرفه ولا أعرفه وأتيقن أن مستحق للمساعدة.
أقول هذا حتى لا يزايد أحد على حبي لمصر وانتمائي لها، إذ أن بعض المصريين يتصورون أن الحب الحقيقي يعني أن تقول دائمًا نعم وأن تغض الطرف عن عيوب من تحبه، فعلى العكس تمامًا فأنني اعتقد أن المحب الحقيقي والمخلص هو من يقول لا عند الضرورة ويسعى إلى كمال محبوبته، فهذا هو الحب الناضج عكس الحب الطفولي الذي يفضي دائمًا إلى إفساد المحبوب وضياعه.
وباختصار شديد فإن من يزور مصر هذه الأيام لن يشق عليه أن يرى أنها تعاني من أزمات في كل مناحي الحياة وما أن تحل إحداها إلا وتندلع أزمة جديدة في صباح اليوم التالي والمشاهد لمحطات التليفزيون المصري سواء الحكومية أو الخاصة سيرى أنها تتنافس على تغطية هذه الأزمات فيما يسمى بالبرامج الحوارية  Talk Shows""  ولا شيء آخر يتم عرضه في هذه البرامج تقريبًا سوى هذه الأزمات الممتدة إلى ما لانهاية.

وإليكم عينة من نوعية هذه الأزمات:
-البطالة الصريحة والمقنعة والتي تشمل الملايين، العنوسة للملايين من الفتيات بسبب صعوبة الزواج، التضخم الجامح والغلاء، الفقر والعوز والتسول، الأطفال المشردين في الشوارع (وصل عددهم إلى 4 مليون وهم يمثلون بيئة خصبة للجريمة في المستقبل) الإدمان، الاكتئاب، انتشار الجريمة، الفساد المستفحل، الفوضى والإهمال والقذارة في كافة المدن ما عدا الأماكن التي يقطنها علية القوم، الغش بكافة أشكاله، تلوث البيئة والطعام والمياه وحتى الهواء، سوء الخدمات الصحية للفقراء وعدم احترام القوانين خاصة من جانب الأغنياء ورجال الشرطة، الشعور بالضياع وعدم الانتماء خاصة من جانب الشباب، انتشار مظاهر التدين الكاذب من حجاب ونقاب واللحى الطويلة والجلباب الأبيض (الإسلام البدوي) كنوع من الخلاص الفردي لا أكثر، الفتاوى الدينية التي لا هم لا إلا جسد المرأة وبعدها عن القضايا الحقيقية، التطرف الديني وازدياد التوتر بين المسلمين والأقباط، تدهور الذوق العام وانقراض الفنون الرفيعة التي اشتهرت بها مصر ويكفيك أن تشاهد نوعية الأفلام الجديدة والأغاني الشبابية، اللا مبالاة بالآخر والطمع وتضخم الأنا، انتشار المحسوبية والوصولية في كل مكان.....

يمكنني أن اذكر المزيد ولكن ليس هذا هو الغرض من كتابة المقال بل الغرض هو محاولة معرفة المشكلة أو الأزمة الأم التي تتوالد منها كل هذه الأزمات لعل هذا يساعد في إيجاد مخرج من هذه الدائرة الجهنمية المغلقة التي وقعنا فيها، ولقد فكرت في هذا الأمر كثيرًا واستدعيت تاريخنا القديم والحديث ووجدت أن فترات صعودنا وهبوطنا في مصر كانت دومًا مرتبطة بنوعية السياسي أو الفرعون القابع على عرش مصر، فهذا الفرعون الذي نقدسه دائمًا يهيمن عبر تاريخ مصر على كل مقاليد الأمور بها، أنه يسيطر ويوجه ويفرض قناعاته ليس على السياسة فقط وإنما على الاقتصاد والفن والإعلام التعليم والدين والرياضة وحتى أسلوب إدارة المحليات...........الخ.
وتتم هذه الهيمنة إما بشكل مباشر وصريح وإما بشكل غير مباشر من خلال محاولات النخبة الانتهازية التي يتم تعيينها بواسطة الفرعون لإدارة مؤسسات الدولة، استرضاء الفرعون وتملقه لضمان استمرارها وذلك من خلال إدارة مؤسساتهم وفق قناعات ورؤى الفرعون حتى دون أن يطلب هذا بشكل مباشر.
وإذا ما مات الفرعون فجأة وخلفه فرعون ذا قناعات مختلفة تماما فانه من السهولة بإمكان قيام المسئولين بإعادة طلاء واجهة كافة المؤسسات حسب الألوان المفضلة للفرعون الجديد، فمصر لم تكن دولة مؤسسات عبر تاريخها الطويل وإنما دولة الفرعون السياسي.

انظر لما حدث في مصر فور تولي السادات مقاليد الحكم بعد وفاة عب الناصر فقد تحولت مصر في فترة قصيرة للغاية من نظام يساري ثوري مناوئ للولايات المتحدة وحليف للاتحاد السوفيتي إلى نظام رأسمالي مناوئ للاتحاد السوفيتي وحليف استراتيجي للولايات المتحدة!!
وللبرهنة على أن حال مصر كان دائمًا مرتبطًا بنوعية ومستوى أداء الفرعون الحاكم، دعونا نعود إلى عام 1805 عندما تم تعيين محمد علي باشا واليًا على مصر التي كانت تابعة للدولة العثمانية، كانت مصر وقتها في أسوأ حالتها وأسوأ بكثير مما هي عليه اليوم حيث كان المماليك يستعبدون المصريين البسطاء ويشاركون الوالي العثماني سلبهم ونهبهم وأهملت البلاد تمامًا وتدهورت أحوالها بشكل مأسوي.
كان محمد علي باشا مخططًا استراتيجيًا من الدرجة الأولى، ثاقب الفكر وبعيد النظر وصاحب مشروع حضاري كبير أثمر عن تكوين إمبراطورية مصرية شملت حدودها الشمالية كل بلاد الشام وحتى حدود تركيا ، كما ضمت الحجاز وامتدت حدودها الجنوبية حتى منابع النيل عند بحيرة فيكتوريا ولكن طموحه الزائد الذي تمثل في تخطيطه لاحتلال القسطنطينية نفسها أدى إلى اصطدامه بالإمبراطورية الإنجليزية وحلفائها ومن ثم تحطيم أسطوله وتقليص إمبراطوريته لتشمل مصر والسودان وليموت محمد علي باشا بعدها حسرة على غلطة ضيعت انجازات عمر.

إن تجربة "محمد علي" تجربة من انجح التجارب التنموية في تاريخ العالم، فبعد أن تخلص من المماليك وأشاع حالة من الاستقرار والأمن في البلاد، عمل على النهوض بالتعليم والقطاع الزراعي وبناء صناعات وطنية قوية واستعان بالفرنسيين من فعول الحملة التي على مصر في بناء جيش وأسطول قويين مكناه من تأمين احتياجات مصر من كل المواد الأولية من خلال بسط نفوذه على الدول المجاورة.
نعم فقد كانت تجربة فريدة في تاريخ مصر المعاصر ولكن حكومة الثورة بقيادة عبد الناصر حاولت إلغائها من تاريخ مصر ولما فشلت في هذا تعمدت تشويهها وأظهرت محمد علي كديكتاتور كان يسعى إلى مجده الشخصي وأن الإمبراطورية التي بناها كانت نتاج استعباد المصريين وإذلالهم.
لست هنا بصدد تقييم تجربة محمد علي باشا فهي تجربة تاريخية كبيرة كما أسلفت تستحق اهتمام المؤرخين والباحثين لما فيها من ثراء ونجاحات وإخفاقات تفوق الوصف، ولكن ما وددت إيضاحه هو أنه عندما تولى عرش مصر فرعون من نوعية محمد علي باشا فقد نجح ببعد نظره ومواهبه القيادية في نقل مصر من بلد في غاية التخلف والانحطاط إلى إمبراطورية متحضرة ومترامية الأطراف، وقد حقق محمد علي هذه القفزة الهائلة في فترة الـ 28 عامًا الأولى من حكمه قبل أن يصبه المرض والجنون، ومن المفارقات أن هذه هي نفس الفترة التي مرت على الذي يحكم مصر حاليًا. انظر إلى ما حققه محمد علي باشا وما حققه الرئيس حسني مبارك الذي يمكن أن نلخص فترة حكمه في كلمتين:

عصر الأزمات:
الرئيس مبارك رجل عسكري من الطراز الأول ولكنه لا يحمل أي رؤية سياسية أو اقتصادية وقد أدار مصر طوال فترة حكم بعقلية الموظف وليس بعقلية القائد المبدع الموهوب والمغامر الجريء كما فعل محمد علي الذي كان يرسل ابنه إبراهيم باشا على رأس جيشه في كل المعارك الكبرى التي خاضها، بينما الرئيس مبارك يسعى إلى توريث مصر إلى ابنه الذي لم يدخل الجيش كبقية المصريين (الفترة الإلزامية) والذي تربى في قصور الرئاسة ولا يعرف شيئًا عن حواري القاهرة ونجوع وقرى صعيد مصر، وباختصار شديد فإن الرئيس مبارك الذي لا يحمل أي مشروع فكرى لمصر ظلم بتوليه عرش مصر ويتحمل المسئولية في هذا الرئيس السادات الذي عينه نائبًا له لما توسم فيه من زهد وتواضع الطموح السياسي. 
ولأن مصر لم تكن أبدا دولة مؤسسات قوية ومستقلة، حيث يهيمن الفرعون على كل مؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية والدينية والتعليمية والإعلامية فأن كل إخفاقات ونجاحات مصر يمكن إرجاعها إلى الفرعون ومن ثم فأنه يتوجب تهنئة الفرعون عند أي نجاح ولومه وتحميله المسئولية عند أي إخفاق.
وللإجابة على سؤال المقال فأن أم المشاكل في مصر وأزمتها الكبرى التي تتفرع منها كل الأزمات التي ذكرناها هي أزمة فرعون بلا هوية وبلا رؤية واضحة حملته صدفة عمياء إلى قيادة سفينة دون دراية بفنون القيادة فقادها إلى محيط مظلم لا يفضي إلى شيء، ضاع الربان فضعنا جميعًا خلفه.

والخلاصة أن لا أمل في حل أزمات مصر الحالية طالما بقى النظام الحاكم كما هو ونتوقع أن يستمر عصر الأزمات في حال نجاحه في توريث الحكم لابنه والبعض يتصور واهمًا أن الابن سوف يكون أفضل من أبيه وأن عصره سوف يشهد نهاية أزمات مصر.
ونحن نقول إن عملية توريث مصر التي تبدو حتمية لن تفضي إلا إلى المزيد من الأزمات لأن من يقود مصر حاليًا هو بالفعل الابن حيث فوضه الأب في كل شيء تقريبًا منذ سنوات طويلة لم تشهد فيها الظروف المعيشية في مصر أي تحسن ملموس بل المزيد من الأزمات.
وباختصار شديد فأن مصر بحاجة إلى فرعون من نوع محمد علي باشا ومن المرجح ألا يظهر هذا الفرعون في ظل هيمنة أسرة النظام الحاكم على الحكم، ومن ثم فأن على شعبنا الطيب الصبر على هذا الابتلاء ربما لفترة 25 عامًا أخرى ولا عزاء للخنوع والاستكانة والجبن والخوف.    

محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي مصري
mahmoudyoussef@hotmail.com