بقلم: أندرو اشعياء
سجون القديس بولس الرسول هي سلسلة طويلة بدأت من اللحظة التى نزل فيها عن فرسه، وركع على ركبتيه «لا يبصر» من منتصف الطريق إلى دمشق مطاطيء الرأس: «يَا رَبُّ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟» (سفر الأعمال9: 6) ..
مدَّ يديه ليقوده آخر إلى داخل دمشق، ومن يومها وقد سلم القيادة إذ صار أسيرًا، وقع فى شبكة الحب الإلهي، دخل بكامل إرادته إلى سجن محبته الرحب جدًا إذ لم يكن السجن له حالة مكانية أبدًا، بل تبعية للمصلوب المحبوب، وبلا حدود ..
كم عاتب تلاميذه ومحبيه - صادقًا - حينما أرادوا أن يثنوه عن الذهاب إلى أورشليم خوفًا من بطش اليهود، وحينما حذره أغابوس النبى فى نبوته الشهيرة سمعنا نبرته الحزينة: «مَاذَا تَفْعَلُونَ؟ تَبْكُونَ وَتَكْسِرُونَ قَلْبِي، لأَنِّي مُسْتَعِدٌّ لَيْسَ أَنْ أُرْبَطَ فَقَطْ، بَلْ أَنْ أَمُوتَ أَيْضًا فِي أُورُشَلِيمَ لأَجْلِ اسْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ» (سفر الأعمال 21: 13) ..
فى فيلبى - وخلال رحلته التبشيرية الثانية – سُجِنَ مع سيلا (سفر الأعمال16: 16 - 18)، ولما تزلزلت جدران السجن وإنفتحت الأبواب كان فى حالة نشوة روحية يصلى ويسبح، حالة روحية أعطته حرية أفضل من كل إتساع.. وبحرية أولاد الله أسر السجان معه وأدخله إلى سجن الحب الإلهى هو وأهل بيته ..
فى قيصرية، أنقذه ليسياس أمير الكتيبة من ضرب العامة اليهود له، قيده بسلسلتين ، قاده إلى المعسكر فى حماية ٢٠٠ جندى من المشاة و ٢٠٠ من راكبى الفرس و ٧٠ رامى رمح، فإن إحتاج إلى كل العدد لحمايته، فلنا أن نتخيل كم كان عدد المحيطين المتعاهدين على الفتك به ..
وحينما وقف أمام فيلكس الوالى كان شجاعًا - رغم السلاسل - حتى إرتعد الوالى الزانى والمرتشى المستبيح حينما أشار الرسول إلى أمر الدينونة ، ولم يتب الوالى إذ تحجج بضيق الوقت ، وأبقى بولس بالسجن لعامين إذ كان يرجو أن يعطيه بولس دراهم ليطلقه (سفر الأعمال 24: 26)..
والعجيب أن كل من وقف أمامه بولس برأه ولم يحكم بإدانته، لا الأمير فى قيصرية ولا فيلكس الوالى ولا حتى أغريباس الملك، وكان يمكن أن يُطلق سراحه لولا أنه قد رفع شكواه إلى قيصر نفسه، وهكذا وصل إلى روما فى رحلة عجيبة إستغرقت الإصحاح السابع والعشرين من الأعمال وأشهر عدة فى عمق البحار والظلام وإنكسار السفينة والأخطار، كلها مقيدُ فى سلاسل من أجل الإنجيل ..
وبقى فى روما فى بيت إستأجره لنفسه، سنتين كاملتين، وكان يقبل جميع الذين يدخلون إليه كارزًا بملكوت الله ومعلمًا بأمر الرب يسوع المسيح بكل مجاهرة ، بلا مانع (سفر الأعمال28: 30، 31) .. فهو أسير ربنا يسوع لأجل الإنجيل ، ويفتخر بفرح:
- «بِسَبَبِ هذَا أَنَا بُولُسُ، أَسِيرُ الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَجْلِكُمْ أَيُّهَا الأُمَمُ» (رسالة ق. بولس لأهل أفسس1: 3).
- «الَّذِي لأَجْلِهِ أَنَا سَفِيرٌ فِي سَلاَسِلَ، لِكَيْ أُجَاهِرَ فِيهِ كَمَا يَجِبُ أَنْ أَتَكَلَّمَ» (رسالة ق. بولس لأهل أفسس6: 20).
- «لِيُعْطِ الرَّبُّ رَحْمَةً لِبَيْتِ أُنِيسِيفُورُسَ، لأَنَّهُ مِرَارًا كَثِيرَةً أَرَاحَنِي وَلَمْ يَخْجَلْ بِسِلْسِلَتِي» (رسالة ق. بولس الثانية لتيموثاوس1: 16).
- «ثُمَّ أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنَّ أُمُورِي قَدْ آلَتْ أَكْثَرَ إِلَى تَقَدُّمِ الإِنْجِيلِ ، حَتَّى إِنَّ وُثُقِي صَارَتْ ظَاهِرَةً فِي الْمَسِيحِ فِي كُلِّ دَارِ الْوِلاَيَةِ وَفِي بَاقِي الأَمَاكِنِ أَجْمَعَ. وَأَكْثَرُ الإِخْوَةِ، وَهُمْ وَاثِقُونَ فِي الرَّبِّ بِوُثُقِي، يَجْتَرِئُونَ أَكْثَرَ عَلَى التَّكَلُّمِ بِالْكَلِمَةِ بِلاَ خَوْفٍ» (رسالة ق. بولس لأهل فيلبي1: 13، 14).
فى سجنه بشر وخدم ورد كثيرين إلى الإيمان، وكتب رسائله الأربع إلى فيلبي وأفسس، كولوسي وفليمون، فى سجنه أطلق الأسرى إلى حرية مجد أولاد الله وصار له إنسيموس أخًا محبوبًا، توسل من أجله وحسبه نظيره..
فى سجنه، إحتمل المشقات حتى القيود كمذنب، لكن كلمة الله لا تُقيد (رسالة ق. بولس الثانية لتيموثاوس2: 9) .. نعم كلمة الإنجيل لا يمكن أن تُقيد إذ لم تقيدها سلاسل الأباطرة ولا قسوة السجون الخشنة.. كم هي قوية كلمات القديس بولس: «وَلكِنْ إِنْ كَانَ إِنْجِيلُنَا مَكْتُومًا، فَإِنَّمَا هُوَ مَكْتُومٌ فِي الْهَالِكِينَ» (رسالة ق. بولس الثانية لأهل كورنثوس4: 3).
فهل لنا أن ندرك لماذا نصرخ خلف نداء الشماس: «صلوا من أجل الأنجيل المقدس» فى أوشية الإنجيل صارخين: «يارب ارحم»؟ أي لتنمو وتعتز وتثبت كلمة الرب .. لتكن بلا قيود لأن الذى يقيدها هو الفكر الرافض لها، الروح المتكاسل والقلب غير التائب.