ماهر عزيز
يتوقف الفهم الصحيح للكتاب المقدس علي القراءة الصحيحة له ، وتتوقف القراءة الصحيحة له علي عوامل عدة يحتاج كل منها الي تحديد معياري ، كي لا يفتئت أحد علي المقاصد الالهية التي أودعها الوحي الالهي بين دفتي الكتاب المقدس ..
ولعل اول هذه العوامل يرتبط بالفهم المباشر لمفردات اللغة وبنيتها ، والتراكيب اللغوية التي تنطوي عليها الايات ، مما يتطلب حدا ادني من المعرفة باللغة ، ومعاني ألفاظها ، وتراكيب جملها وتعبيراتها ، وقواعد اعرابها ، وبنيتها اللفظية التي ترتبط في بعض اللغات ، كاللغة العربية ، بتشكيل حروف المفردات ذاتها .. فجميع آيات الكتاب المقدس اذا لم تقرأ بالتشكيل السليم الواقع علي حروف الكلمات قد يتبدل معني الآيات كله علي عكس مقاصدها اطلاقا !!!!
فإذا انتقلنا من الفهم السليم للغة تتبدي علي الفور الآيات اليسيرة والايات العسرة ، الايات المباشرة والايات الضمنية ، الايات الصريحة والايات الاحالية ، الايات المنفصلة والايات المتصلة ، الآيات الأولية والآيات التفسيرية ، الآيات التاريخية والآيات الآنية والايات المستقبلية ، الآيات الاقرارية والايات النبوية ، الآيات الانذارية والآيات الواعدية ، الآيات العقيدية والايات الطقسية ، الآيات الدنيوية والآيات الاخروية ، الآيات الأحكامية والايات الخلقية ... تنوع عريض لآيات يرتبط الفهم السليم لها بادراك وحيها ورسالتها ... وهذه الآيات كلها يتعين التناول المنهجي لها كسبيل لا مناص منه للفهم السليم لمقاصد الله..
1 - وأول السبل المنهجية للفهم الكتابي هو الرجوع فيما يغمض فهمه وعدم إدراكه علي نحوه الصحيح الي كتب التفسير التي قد تصاحبها كثيرا المعاجم والفهارس والهوامش والملاحظات الذيلية ..
لكن الاشكال يتلبس هنا بالمرجعية التفسيرية ، لأن مدارس تفسيرية عديدة قائمة يتوقف الفهم فيها علي المنحي التفسيري المعتمد لكتاب التفسير . فليس كل كتاب تفسير يؤدي نفس التفسير ..
وقد يكون الخروج من هذا المأزق هو الرجوع الي أكثر من تفسير ، بأكثر من منهج للتفسير ، والركون في النهاية الي مبادئ جوهرية أولية للحكم علي سلامة التفسير .. لكن السؤال الذي يبقي هو : ما هي هذه المبادئ الجوهرية الأولية للحكم علي سلامة التفسير ؟
2 - وثاني هذه المناهج التفسيرية هو الرجوع الي التراث الابائي وتوجيه هذا السؤال الخالد للتراث : كيف فهم الآباء الاولون النص الكتابي؟ وكيف طبقوه ؟ وكيف اودعوه طرق العبادة ؟ وكيف عاشوه ؟
والعهدة هنا هي علي الإجماع الابائي الذي ينطلق من فرضية يتعين أن تؤخذ بتحفظ وهي أن "جميع ما أجمعوا عليه هو هو فقط الصحيح" وبالتالي يؤخذ كونه الصحيح مطلقا دون تفكير !!!
لكن المأزق الخطير الذي يظل قائما هنا - في الشروحات والتطبيقات التي تولدت عنها - يظهر جليا في التوارث تاريخي لبعض المفاهيم التي تبدو الان - مهما كانت منقولة عن آباء ينسب لهم البر والفضل والكرامة - مناقضة للقصد الالهي الثابت للقيمة الانسانية ، ومناقضة للمشيئة الالهية الثابتة لحرية الروح في ارتباطها اللدني بخالقها الأعظم !!! بل وتبدو مناقضة للاتحاد بالمسيح كعهد النعمة الجديد بروح التجرد التي أسقطت القيود الزمنية الطقسانية المرتبطة بعبودية الناموس ؛ الذي أتمه وأغلقه يسوع ، وحرر من قبضته روح الإيمان به والاتحاد فيه !!!
وهذا المأزق قد لا يحله الا اجماع جديد علي الفهم الروحي السديد للفداء بالمسيح..
ولكن يبقي التراث الابائي مهما في التفسير في كل ما لا علاقة له بسيادة البشر علي البشر التي توارثها الاباء عبر الاجيال دون تمحيص كاف للمغزي العميق للتجسد الالهي !!!
3 - وثالث هذه المناهج التفسيرية هو المبدأ الداعي الي " تفسير الكتاب بالكتاب " .. أي أن الكتاب المقدس هو الذي يفسر الكتاب المقدس ذاته .. ومبدأ " مفسرين الكتاب بالكتاب " يقضي بترابط عضوي كامل بين كل آيات الكتاب المقدس فيما بين دفتيه بوصفها جميعها نابعة من وحدة القصد الإلهي في الكتاب المقدس كله .. ولقد نجح هذا المنهج كثيرا في إلقاء الضوء علي الفهم الكتابي السليم لمقاصد الله .. ولكن تحفظا مهما يحيط بذلك المنهج ألا وهو الحاجة الماسة للتعمق في الكتاب المقدس كله والتمرس بالربط الكتابي الواعي للاسفار المقدسة كلها معا.. مما يحتاج جهدا ووقتا ووعيا وأمانة في البحث المنزه عن الهوي !!!
تحفظ مهم آخر علي هذا المنهج ألا وهو الحاجة الماسة أحيانا للبحث أيضا في تفاسير جانبية أمينة تضيء الفهم في بعض ما يشكل فيه الربط الكتابي !!!
لكن الأمر كله في الفهم الكتابي علي اي نهج تفسيري ممكن يبقي معلقا بمبادئ جوهرية هادية لا يمكن لأي تفسير كتابي أن يتقدم في الفهم الكتابي دون أن يتسلح بها ؛ وهذه المبادئ الجوهرية للفهم الكتابي تتلخص في مبدأين رئيسيين ينبغي أن يكونا هما معا حجر الأساس لأي تفسير سليم :
أولهما : أن التفسير السليم لا يمكن أن يتناقض مع الحق الإلهي ..
ثانيهما : أن التفسير السليم لا يمكن أن يتناقض مع العدل الالهي ..
فأي تفسير لأي آيات بالكتاب المقدس ينتج عنه مفاهيم أو تطبيقات تتسبب عن طغيان البشر علي البشر هو تفسير ساقط يرفضه الله ويشجبه ويحاكم عليه ...
وأي تفسير لأي آيات بالكتاب المقدس يتسبب عن عدم وضوح الحق أو ضياعه أو وقوع الظلم بأحد هو تفسير باغ يؤثمه الله ويغضب له ويحاكم عليه ...
فليكن التفسير الكتابي إذن علي خطي الحق والعدل الالهي ليكون مقبولا لدي الله والناس.