(من مجموعتي القصصية لحظات تانجو)
موسيقى الكمان العذبة، تنساب كالنهر من بين أناملها الرقيقة. تروى الجوار الهادئ، الذي اعتاد أن يصمت كل ساكنيه، حين تبدأ بالعزف. ينهلوا من روعة الإبداع، عطشًا لرقى الفن المفقود، وتقديرًا لجارتهم الحسناء عازفة الكمان.
في إحدى الشرفات، يقف مشدوها الساكن الجديد، الذي جاء من مدينته ليتسلم عمله هنا. لم يمضي على انتقاله سوى يومين فقط، وهذه أول مرة يسمع فيها صوت الكمان الساحر، الذي خطفه من اللحظة الأولى، جعله يقف باحثًا عن مصدر الصوت ولا يراه.
في اليوم التالي، سأل حارس العقار عن عازف الكمان المجهول، فأخبره أنها جارتهم المقيمة في العمارة المواجهة لهم، وأنها أبنه لأسرة محترمة جدًا، أحسنت تربية أبنائها المحبوبين من الجميع.
تكرر تدفق موسيقى الكمان، كل يوم تقريبًا في نفس الموعد، مما جعله يحرص على العودة مسرعًا بعد عمله، ليستمع إلى هديل الملائكة، الذي يناجيه كمنجاة الحبيب، الصادر من الشرفة المقابلة. تعلق قلبه إلى درجة الشغف بالعازفة المجهولة، التي لم يراها حتى الآن رغم مرور شهرًا كاملًا تقريبًا، منذ انتقاله، إلى أن سمع في إحدى الليالي صوت الكمان في غير موعده، فانتفض مسرعًا إلى الشرفة، فإذا بالعازفة رائعة الجمال، تضاهى القمر في علاه ويطفئ نورها وميضه، سارحة في ملكوت موسيقاها، غير مدركة لما حولها. وقف يتأملها مأخوذًا بما ترى عيناه وتسمع أذناه.
بعد أن انتهت من عزفها وقفت دقائق، تتنفس هواء الليل الذي يداعب وجهها الطفولي، فأومأ الجار محييًا جارته التي لم تجبه، بل دخلت وأغلقت شرفتها. فعلل ذلك أنها لظلمة الليل لم تراه، لكنه ظل مستيقظًا، لا يريد أن يغمض عينيه حتى لا تغيب صورتها عنه. ازداد تعلقه بها، وازداد تواجده في منزله، لتحين أي فرصة ليراها، فتكرر موقفها المتجاهل له أكثر من مرة، مما أثار ضيقه، لكنه في كل مرة كان يوجد المبررات لتصرفها، فلا يطول غضبه، ويصله صوت الكمان مرضيًا، فيعود كسابق عهده، سابحًا لشاطئها الذي لا يستطيع الوصول إليه. قرر أن يختصر الطريق، ويدخل البيت من بابه. في أول إجازة سيخبر أسرته، ويأتي بوالديه لزيارة الجيران وتمهيد الطريق له.
اليوم عند عودته من عمله، كان هناك جمع كبير أمام عمارته، عرف منهم أن سيارة مسرعة صدمت ابن الحارس ونقل للمستشفى، لكن صدمته هو كانت أشد وأعنف بكثير من صدمة الطفل المصاب. معشوقته تهبط من سيارة أبيها وبيدها عصاة. إنها كفيفة! لهذا لم تراه في كل مرة كان يحاول تحيتها أو الابتسام لها. كل هذا النور لا يرى النور. كيف وقد شاهدها تقوم بكل أعمال المنزل تقريبًا، حتى إشعال الموقد وطهو الطعام. تعلقت عيناه بعصاها غير مصدقة. تزلزلت الأرض تحت قدميه، كاد أن يسقط من هول الصدمة التي لم تخطر بباله. عبرت من أمامه، لا يفصلها عنه سوى سنتيمترات، لحظة تمناها وحلم بها، لكنها أتت وهو عاجز عن الحركة او النطق.
غرق في أحزانه وحيرته، بين قلبه الذي تعلق بها حد الهيام، وعقله الذي يراها معاقة وعاجزة، وصوت الكمان المعاتب، المتحدي لمشاعره المتضاربة.
مرت أيام لا يستطيع حسم أمره، وعند عودته في المساء قابل الحارس فسأله عن ابنه، أجابه أنه بخير، وأن جارتهم عازفة الكمان، تقوم بالتغيير على جرحه كل يوم وحقنه بالدواء، كما أوصى الطبيب. صدم من كلماته، وتعجب، كيف تقوم بذلك وهي كفيفة؟ استرسل الرجل، أن هذه الجميلة تعودت عمل كل شيء منذ صغرها، تجيد ما لا يجيده المبصرون، وتساعد الكل بلا استثناء، فعيون القلب ترى، بالمحبة، ما لا تراه العيون المبصرة، والنفوس العطاءة لا يصيبها العجز. لذلك ملكت القلوب، لا يراها أحد معاقة، بل فنانة رقيقة، عالمها يتسع للجميع بكل الحب والرضى.