د. محمد أبوالغار
كان عمرى أصغر بأسبوعين من 16 عاما عندما أنهيت دراستى الثانوية بمدرسة الإبراهيمية العريقة فى جاردن سيتى، وحصلت على مجموع 85%، وكان ترتيبى فى الشهادة الثانوية 81 على كل طلاب الثانوية. الملحوظة الأولى أن المجموع فى الثانوية لم يكن يصل إلى الأرقام الفلكية التى تحدث الآن. فلم يحصل أحد على 90%، وكان الامتحان منتظما، وله قداسة خاصة لأنه كان أهم امتحان فى تاريخ الطالب، ولم تكن هناك فرص للغش والتسريب الموجودة الآن.
تقدمت إلى مكتب التنسيق، كما هو الحال الآن، وقُبلت الرغبة الأولى لى وهى طب قصر العينى. وكانت هناك سنة إعدادى طب تقضيها فى كلية العلوم داخل الحرم الجامعى. كانت دفعتنا 220 طالبا وطالبة. قضينا عاما دراسيا تعرفنا فيه على الجامعة وعلى الدراسة بشكل مختلف عن المدرسة، وفى النهاية نجح معظمنا وانتقلنا للدراسة فى قصر العينى.
قصر العينى فى ذلك الوقت كان فعلا قصرا كبيرا، ولك أن تتخيل أن داخل أسواره كان يوجد ملعب قانونى لكرة القدم وملعبان لكرة السلة وملعب لكرة اليد وملعبا تنس وحمام سباحة وحلبة ملاكمة، وأخرى للمصارعة وتراك لألعاب القوى وجيمانيزيوم كبير. وكان هناك حجرة للموسيقى الشرقية وأخرى للموسيقى الغربية، وبهما جميع الآلات الموسيقية التى يتدرب الطلاب على العزف عليها وكان هناك مدرب للموسيقى. وكان مسرح الكلية كامل التجهيز نشيطا، وفريق التمثيل كان يدربه أحد المخرجين المعروفين، وكنا ندخل مسابقة للحصول على كأس الجامعة فى العمل المسرحى، وكان عدد كبير من الطلبة يحضر العروض لتشجيع فريق الكلية. وكانت معارض الفن التشكيلى تملأ الكلية.
هذا عن النشاط الجامعى. ولم يكن يوجد نشاط سياسى فى الكلية، ولم يكن هناك تيار إسلامى أو تيار من أى نوع. كان النظام الناصرى فى أول عنفوانه وكان العمل السياسى ممنوعا باستثناء تنظيم هش تابع للنظام اسمه الاتحاد القومى.
كانت الدراسة مجانية تماما وكان الطلبة المتفوقون- الحاصلون على 75% أو أكثر فى الثانوية العامة أو تقدير جيد جدا أو ممتاز فى سنوات الكلية- يأخذون مكافأة تفوق شهرية قدرها 15 جنيها، وكان هذا مبلغا كبيرا فى ذلك الوقت.
فى الإجازة الصيفية بعد إعدادى طب اشتركت فى رحلة إلى مرسى مطروح بالقطار درجة ثالثة لمدة أسبوعين فى معسكر فى غاية النظام والنظافة والنشاط الرياضى والثقافى شاملا الوجبات الثلاث وحفلات الترفيه، وكان الاشتراك فى الرحلة بمبلغ 50 قرشا. لك أن تتخيل حجم الدعم.
كان من ضمن دفعتنا 40 فتاة لم تكن واحدة منهن محجبة، وكان هناك حوالى 30 طالبا من البلاد العربية معظمهم من الخليج والسودان.
وكانت تقام دورة رياضية ثقافية كل عام بين كليات الطب تسمى دورة الطب وكانوا ثلاث كليات: قصر العينى وعين شمس والإسكندرية، وانضمت لها طب دمشق أيام الوحدة مع سوريا، وكانت الدراسة منتظمة وأعداد الطلبة معقولة وكل شىء منظم.
أذكر أن دخل العميد إلى المدرج الكبير فى أول العام الدراسى، ومعه د. حسين فوزى المثقف الكبير ودارس الموسيقى الكلاسيكية والأستاذ يحيى حقى رائد القصة، ودعانا د. حسين فوزى إلى الحضور فى مؤسسة الفنون لسماع الموسيقى وحضور محاضرات ثقافية، ودعانا الأستاذ يحيى حقى إلى نادى القصة فى شارع قصر العينى. كانوا يريدون أن نتخرج حكماء وليس فقط أطباء. كانت الحياة الجامعية رائعة وكان معظمنا ينتمى إلى إحدى الأسر الطلابية.
حفيدى يوسف زكريا ابن منى ابنتى أنهى دراسته الثانوية وحصل على 99.6% وهو مجموع أصبح يحصل عليه عدد كبير من الطلاب فى عصرنا الحالى، وبهذا المجموع استطاع أن يحصل على مكان فى طب أسوان وتم تحويله إلى طب القاهرة، حسب لائحة التوزيع الجغرافى. لك أن تتصور كيف حدثت هذه القفزة فى المجاميع، وبأى منطق يحصل مئات الطلاب على الدرجة النهائية. كان يوسف يسألنى عن الكلية ونظامها لما كنا طلبة، وعندما حكيت له أصيب بالذهول. الآن تم البناء فى الملاعب بالكامل، ملعب الكرة ومعظم النشاطات الرياضية انتهت للأبد، والنشاط الاجتماعى والمعارض الفنية أصبحت تاريخا ولا توجد غرف للموسيقى ولا مسرح.
أعداد الطلاب ارتفعت من 220 إلى 2500 طالب من دفعة يوسف. وأدخل نظام جديد فى التعليم بالمصروفات، من يرغب فى الدخول يدفع 90 ألف جنيه للالتحاق به، ويدرس نفس المقرر، ولكن الأعداد أقل والأماكن مريحة. ونظرا للأعداد الضخمة فجزء كبير من الدراسة أصبح نظريا أو باستخدام الكمبيوتر. حكاية أن تقوم بالتشريح بنفسك كما كان متاحا لنا أصبح ضربا من الخيال. ربما أتاحت التكنولوجيا الحديثة فى التعليم فرصا أحسن وطرقا أبسط فى الفهم ولكن ما كان يحدث فى الزمان الغابر أصبح فى خبر كان.
مصر تغيرت تماما. كان تعداد المصريين حين دخلت كلية الطب 23 مليونا، والآن تخطينا المائة مليون. أعلم أنه حدث تدهور كبير فى التعليم عموما والتعليم الجامعى خاصة، وشمل ذلك جميع الكليات النظرية والعملية. لن أدخل فى تفاصيل مشاكل التعليم الجامعى التى تبدأ بالإنفاق عليه، وهو ما لم يصل أبدا إلى الحد الأدنى الذى حدده الدستور، والعدد الهائل من الكليات الإقليمية غير كاملة التجهيز، والأعداد الكبيرة من الجامعات الخاصة ذات المصاريف الباهظة والمشاكل المعقدة. حقا مصر تغيرت تماما، وفى العالم يتحدثون عن تطوير التعليم وحدوث طفرة فى البحث العلمى، ونحن فى مصر عندنا صعوبات هائلة فى استيعاب الطلاب، ولا أعرف ما هو مصير التعليم فى بلدنا. وهل يمكن أن نلحق بالدول المتقدمة ولو فى بعض الكليات وبعض التخصصات؟ هذا طبعا من المحال. الانفجار السكانى واعتبار أن التعليم ليس من الأولويات كارثتان تسببتا فى القضاء على مستقبل التعليم فى مصر، ولا أدرى ماذا يخبئ المستقبل لنا.
نقلا عن المصرى اليوم