د. أحمد الخميسي
كلما تلقيت كتابا من أديب شاب تقفز إلى ذهني بدايات القراءة'> القراءة في حياتي وعلاقتي بالكتب. أتذكر اليوم الأول الذي دافعت فيه عن كتاب وأنا في نحو السابعة من عمري، كان ذلك حين اقتحمت الشرطة عام 1954 بيتنا في العباسية وراح أحد الضباط يقلب الكتب ثم احتفظ بين يديه بكتاب " صيحات الشعب" من تأليف والدي، فأبديت بادرة احتجاج وصحت فيه:" هذا كتابنا"! فجذبتني أمي للخلف، ونظر إلى الضابط ووجدني طفلا في شورت قصير فلم يعرني أدني اهتمام. وحين اعتقل والدي ذهبنا إلى جدي لنعيش معه في بيته، وكان بيتا من طابقين، قصيرا، يلوح كأنه يوشك على السقوط كل لحظة، ولكنه ينجو في نفس اللحظة بفضل ابتهالات جدتي واسترحامها السماء. هناك كانت مكتبة جدي التي حوت عددا من الكتب أغلبها لعباس العقاد. كنت أفتح أي كتاب فأرى على الصفحة الأولى منه خط جدي منمقا: " وكيف أقول ملكي ولله ملك السماوات والأرض؟" فأسعد بتواضعه وزهده ، لكني ما إن أستكمل القراءة'> القراءة حتى أرى أسفل تلك العبارة كل بيانات جدي الشخصية مسجلة بخط يده، بدءا من اسمه بالكامل ثك رقم بطاقته وعنوان سكنه ومهنته! أقول لنفسي : فيم إذن عبارة وكيف أقول ملكي؟ وأنت تثبت بكل ما تستطيع أنه ملكك ؟! تركنا منزل جدي وانتقلنا إلي مسكن مستقل وهناك ظهرت مكتبة والدي وبفضلها بدأت القراءة'> القراءة، وكانت أمي تلزمني بالنوم مبكرا ، فكنت أشتري شموعا لأقرأ عليها ليلا في الحمام، ومن تلك الكتب كانت أولى كلماتي التي رحت أخطها على كل باب في الشقة :" جئت إلي هذا العالم لأختلف معه " نقلا عن مكسيم جوركي! وحين لطخت كل الأبواب صرخت في أمي : " خلاص. كفاية. عرفنا إنك جئت لتختلف. اترك الأبواب في حالها بقى"!!
وعلى مدى عام قرأت بنصف جنيه فقط سورا كاملا من الكتب حين كنت أخرج من المدرسة فأتجه إلي سور فيلا قديمة مجاورة رص عليه عم حجازي مختلف الكتب لبيعها، أعطيه نصف قرش وأجلس على الرصيف أسفل السور أطالع كل ما لديه حتى تحل العتمة ثم أنصرف. كان الاتفاق بيننا أن أقرأ بنصف قرش قدر ما أستطيع لكن لا أخذ كتابا لي. من هذا السور قرأت رواية " ذات الرداء الأبيض " لويلكي كولنز وأغلب ما نشرته سلسلة " كتابي " لحلمي مراد وأرسين لوبين، وغير ذلك. وقد عاشت تلك القراءة'> القراءة الأولى لا تغادر قلبي، مثلها مثل الحب الأول، وفيما بعد مضت حياتي كلها تتقاطع مع الكتب ومع أوراقها وأغلفتها، وكانت الكتب علامات في عمري أتذكر بها هذا المنعطف أو ذاك، هؤلاء الأصدقاء أو غيرهم ، هذه المحبة أو ذلك الغرام، هذا المسكن أو غيره، سنوات بعينها أو أخرى، هذا الاختلاف الفكري الحاد أو ذاك الاتفاق. وسوف تبقى الكتب التي تستلهم الحقيقة صديقة أعمار وأحلام البشر، المنشورة منها وغير المنشورة، الظاهرة أو المضمرة، المكسوة بغلاف أو عارية كأطفال الفقراء، التي ولدت والتي ستولد، ستبقى الكتب التي تقودنا إلى الأحلام.
د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري