بقلم : يوسف سيدهم
من الأمور المسكوت عنها في مجتمعنا أن ثقافة المواطن المصري في مواجهة الطوارئ مقصورة علي الاستنجاد بالآخرين وعلي رأسهم أجهزة الدولة (!!!) ولا تتضمن تلك الثقافة أن يكون المواطن مسلحا بأدوات أو آليات التعامل مع الطوارئ, فكل ما يعرفه في هذا الصدد الصراخ لمن حوله الحقوني تاركا للآخرين مسئولية التدخل للإنقاذ سواء بالجهد الذاتي -الذي قد يكون مفيدا أو للأسف قد يكون مضرا- أو بالإسراع بالاستنجاد بالأجهزة الرسمية مثل بوليس النجدة أو الإسعاف أو المطافئ أو أي أجهزة أخري… وفي هذه الحالة قد يصل الغوث المطلوب في الوقت المناسب أو قد يصل متأخرا بعد أن يكون قد فات الأوان… هذا ببساطة لأن مؤهلات المواطنين في التعامل مع الطوارئ منعدمة, وإدراكهم لأهمية ذلك التأهيل غائب ولا يملكون سوي قلة الحيلة والحسرة علي الخسارة إزاء ما قد يتعرضون له من طوارئ!!
ومن الأمثلة الكارثية علي ما أقول الثقافة المجتمعية إزاء أخطار الحريق, فكل ما يعرفه المواطن إذا حدث نشوب حريق في مسكنه أو مقر عمله أو مرفق من المرافق التي يتردد عليها, هو أن يرتبك ويصرخ ويفقد توازنه ويجري هاربا من موقع الحريق طالبا السلامة, ثم بعد ذلك قد يفكر في الاستغاثة بمرفق الإطفاء -هذا إن كان يعرف رقم المرفق!!!- لكن للأسف يجهل ذلك المواطن أية ثقافة أو تأهيل لكيفية التعرف علي سبب الحريق وبالتالي طريقة التعامل معه لإخماده في مهده باستخدام أجهزة الإطفاء الذاتية الواجب أن يكون أي مكان مجهزا بها, فإذا شعر أن شدة الحريق آخذة في الازدياد وأنه قد يخرج عن حدود السيطرة, يسرع بالاستغاثة بمرفق الإطفاء… وأنا إذ أتعرض لهذا الملف الكارثي المسكوت عنه أسجل أن إجراءات ترخيص أي مبني قيد الإنشاء تشمل استيفاء جميع متطلبات الدفاع المدني الصارمة في مجالات التأمين ضد الحريق ووسائل مقاومته ومسارات هروب الطوارئ لشاغلي المبني… لكن الواقع الكارثي يشهد بأن كل الصرامة المتبعة في مراجعة تلك المتطلبات ضمن مستندات الترخيص لا تمتد إلي التفتيش علي الالتزام بتنفيذها علي الطبيعة ولا التفتيش الدوري عليها بعد تشغيل المبني في الأغراض المنشأ لأجلها ولا التحقق من وجود الكوادر المؤهلة للتعامل مع الطوارئ أو الإنقاذ!!!
وأنا أذكر في هذا الصدد تجربتنا في وطني عندما حرصنا منذ سنوات طويلة علي تجهيز المقر الذي نشغله بوسائل إطفاء الحريق, ولدي تعاقدنا مع الشركة المسئولة عن توريد أنظمة الإطفاء أن طلبت الشركة منا ترشيح ثلاثة من العاملين الدائمين لتدريبهم علي مهمة التعامل مع أي حريق قد ينشب… واسترعي انتباهي وقتها أن التدريب المطلوب -كما أفادت إدارة الشركة- لم يكن مقصورا علي كيفية تشغيل واستخدام أجهزة الإطفاء, إنما تضمن بقدر لا يقل أهمية عن ذلك التأهيل النفسي لأولئك العاملين علي رباطة الجأش والهدوء وعدم الارتباك والعناية بسرعة إخلاء المكان من شاغليه بأمان بالتزامن مع استخدام أجهزة الإطفاء لمقاومة الحريق… كل ذلك قبل الصراخ والاستغاثة وطلب مرفق الإطفاء.
هذه الثقافة في التعامل مع الطوارئ تعد حيوية في أمور كثيرة في حياتنا ويتحتم وجود آليات تأهيل المواطنين لامتلاك أدواتها, ليس فقط بالنسبة للحرائق, إنما الأهم من ذلك في مجال الإسعافات الأولية التي تتصل بسلامة وأمان وحياة البشر من حولنا, سواء في أسرنا أو في مجالات عملنا أو تحركاتنا أو سائر أنشطتنا… فكم من الحوادث تحدث وتكون فيها حياة مواطن مرهونة بثوان معدودة ومعلقة علي سرعة تدخل المحيطين به قبل وصول وسائل الغوث والإسعاف المتخصصة… هنا تكمن الأهمية القصوي للحرص علي تأهيل كل مواطن بثقافة الإسعافات الأولية التي تمكنه من سرعة إدراك نوعية الخطر الذي يحيق بمواطن آخر والمبادرة بالتدخل الصحيح لإسعافه وإنقاذ حياته.
ولعل من الأمثلة القاطعة في هذا الخصوص ما عايشناه جميعا منذ نحو أسابيع ثلاثة خلال متابعتنا لمنافسات بطولة أوروبا لكرة القدم, حين فوجئ الجميع أثناء مجريات اللعب بسقوط أحد لاعبي فريق الدانمرك علي الأرض -دون أي اشتباك مع لاعب خصم- وظهور أعراض غيابه عن الوعي… وهنا أسرع الحكم بإيقاف اللعب وذهب لاستطلاع الأمر قبل أن يطلب تدخل الفريق الطبي التابع له اللاعب, لكن تلاحظ هروع زميل لهذا اللاعب في نفس الفريق وإسراعه بعد فحص سريع له بعمل محاولات التنفس الصناعي لإنقاذ حياته, واستمر في ذلك حتي وصل الأطباء المتخصصون وباشروا التدخل الطبي اللازم لإسعافه حتي تم نقله للمستشفي… وقد اعترف الجميع أنه لولا تدخل زميله في الوقت المناسب لما كان ممكنا إنقاذ حياته ولذلك تم تكريم ذلك الزميل اعترافا ببطولته.
وإذ أسجل ذلك… أشير في هذا الصدد إلي الرسالة التي وصلتنا في وطني -ونشرت في حينها علي موقع وطني الإلكتروني- من الأستاذ أشرف حلمي بعنوان: أهمية حصول الرياضيين علي دورات الإسعافات الأولية ويقول فيها: أدعو المسئولين بجميع الوزارات والمؤسسات الرياضية لإعداد تشريعات بموجبها لا يحق للاعبين أو المدربين أو العاملين بالنوادي والأجهزة الرياضية التسجيل في أية أنشطة دون الحصول علي دورات الإسعافات الأولية -مع تجديدها سنويا- وذلك بعدما عايشنا من مشهد مؤلم مؤثر تابعه الملايين من عشاق كرة القدم خلال مباراة الدانمرك وفنلندا علي ملعب باركين في كوبنهاجن عند سقوط لاعب الدانمرك كريستيان إريكسن مغشيا عليه… فلولا تدخل قائد الفريق سيمون كيير في الوقت المناسب وبعد تأكده أن زميله المصاب لم يبلع لسانه ومبادرته بإجراء عملية مساعدته علي التنفس قبل وصول الطواقم الطبية وذلك بفضل ما يمتلكه من خبرات في مجال الإسعافات الأولية لكان احتمال فقدان إريكسون لحياته واردا… إن دورات الإسعافات الأولية وتجديدها بصفة دورية تعد ضمن المؤهلات اللازمة للتعيين في كثير من الوظائف والمواقع في جميع أوجه العمل ومجالات الأنشطة في دول كثيرة… وقد آن الأوان لأن ندرك أهمية ذلك وحتمية اتباع الآليات التي تجعل منه واقعا معاشا في مجتمعنا.
*** ألا هل أبلغت؟… اللهم فاشهد.