مؤمن سلام
تطور الكنيسة الكاثوليكية
القارئ لتاريخ الكنيسة الكاثوليكية سيجد أنها قد مرت بعدة مراحل من التطور، الأولى هى مرحلة الإضطهاد الشامل للمسيحية حتى القرن الرابع الميلادي مع اعتناق الإمبراطور قسطنطين (272م- 337م)، الثانية مرحلة التبعية الكاملة للدولة وسيطرة الإمبراطور على الكنيسة والدولة والخضوع التام لسلطة الدولة عملاً بوصايا بولس الرسول، والتي تضمنت محاولة الكنيسة خلق سلطة روحية موازية للسلطة السياسية من خلال نظرية السيفين من القرن الخامس وحتى نهاية القرن العاشر، أما المرحلة الثالثة فكانت مع دخول القرن الحادي عشر وجلوس البابا جرجوري السابع (1015 – 1085) على كرسي البابوية عندما نجحت الكنيسة في التخلص من سيطرة الإمبراطور على الكنيسة بل والسيطرة على الدولة ليصبح البابا المالك للسيفين الزماني والروحي وهى المرحلة التي استمرت لأكثر من 7 قرون لتنتهي مع الثورة الأمريكية ثم الفرنسية وأخيراً قانون العلمانية الفرنسي عام 1905. أما المرحلة الرابعة والأخيرة وهى التي نعيشها الآن فيمكن التأريخ لها بعام 1965 مع نهاية مجمع الفاتيكان الثاني وصدور وثائقة والذي يُمكن اعتباره اعلان خضوع الكنيسة الكاثوليكية لقيم التنوير والحداثة بل واعتبارها قيم مسيحية من خلال تقديم تأصيل إنجيلي لهذه القيم.
أسباب تطور الكنيسة الكاثوليكية
في خلال المرحلة الثالثة من مراحل تطور الكنيسة الكاثوليكية وتحديداً بحلول القرن السادس عشر بدأت الثورة العلمية والدينية ثم لاحقاً في القرن السابع عشر والثامن عشر الثورة الفلسفية ثم السياسية على الكنيسة الكاثوليكية كرد فعل طبيعي على استبدادها وفسادها. قاد هذه الثورة رجال دين أبرزهم مارتن لوثر وجون كالفن، وعلماء أشهرهم ليوناردو دا فينشي، ومفكرين وفلاسفة أبرزهم مكيافللي وتوماس مور وكوبرنيكوس، ثم جاء فلاسفة العقد الإجتماعي هوبز ولوك وروسو، ونقاد الكتاب المقدس وعلى رأسهم سبينوزا، ثم كان عصر الأنوار الذي مثل انقلاب في الفكر الإنساني من ديكارت إلى فولتير وهيوم وكانط وأول فلاسفة النسوية ماري وولستونكرافت، وصولاً لداروين.
زخم علمي وفلسفي كبير شكل تحدياً فلسفياً وعلمياً وعقائدياً للكنيسة الكاثوليكية، قابلته الكنيسة في البداية بالعنف والقمع الذي تراوح بين السجن وحرق الكتب والاعدام وحرق العلماء والفلاسفة مثل جوردانو برونو (1548 – 1600)، إلا أن التراكم المعرفي الذي أحدثه المفكرين والعلماء الذي قادوا مسيرة التنوير بالرغم من خطورتها فلم ينافقوا سلطة ولا جماهير ودفعوا أثمان باهظة مقابل فكرهم وعلمهم الذي يتصادم مع التفسيرات الكنسية للدين أنذاك، كان لا بد أن يؤدي في النهاية إلى تراجع الكنيسة واستسلامها للأفكار الجديدة، ليس فقط بالتوقف عن مطاردها وقمعها ومنعها ومعاقبة أصحابها، بل إنها مع الوقت تبنتها، وأولت نصوصها وفقاً لها.
أى أن الكاثوليكية تبنت قيم الحداثة في النهاية، بعد صراع مرير مع الفلاسفة والعلماء والمفكرين.
إنفصال الكنيسة الأرثوذكسية
تشاركت الكنيسة الأرثوذكسية مع الكنيسة الكاثوليكية في المرحلتين الأولتين، مرحلة الإضطهاد ومرحلة التبعية للدولة، حيث كانت الكنيسة المسيحية كيان واحد باستثناء انشقاقات صغيرة هنا أو هناك مثل الغنوصية المصرية في القرن الثاني الميلادي على يد المُعلمين السكندريين فالنتينوس (100 – 160م) وباسيليوس والأريوسية التي ظهرت في مصر أيضاً في القرن الثالث على يد آريوس (250 – 336م) الذي أدى إلى أول مجمع مسكوني في تاريخ المسيحية وهو مجمع نيقية الأول، لمواجهة هذه الأفكار الآريوسية والذي بلور "قانون الإيمان" القائم حتى اليوم. إلا أن هذه "الهرطقات" كما تسميها الكنيسة لم تكن ذات أثر كبير على وحدة الكنيسة المسيحية.
ثم كان مجمع خلقيدونية عام 451 م، وهو المجمع الذي شهد انقسام الكنيسة المسيحية إلى يعاقبة وملكانيين الذين أصبحوا لاحقاً أقباط أرثوذوكس وكاثوليك وروم أرثوذكس، ليستمر الإنقسام حتى هذه اللحظة. وإذا كان الشائع والمُعلن أن سبب الإنشقاق هو الخلاف حول طبيعة المسيح هل هو من طبيعة واحدة أم طبيعتين. إلا أن هناك من يرى أن الأمر سياسي يتعلق بمكانة كنيسة الإسكندرية في مقابل كنيسة روما وكنيسة بيزنطة، حيث تمتعت كنيسة الإسكندرية بموقع مرموق مكنها من ممارسة نفوذ أكبر وصلاحيات أوسع داخل وخارج مصر إلى درجة وصفها بـ "فراعنة الكنيسة" ، فيقول عزيز سوريال "ولكن المسألة هنا سياسية بالدرجة الأولى، إذ أنه قُصد بمجمع خلقيدونية تقليم أظافر الكنيسة المصرية التي رأى البابا الروماني أنها قد تجاوزت حدودها." ويقول في موضع أخر "وبهذا تم نسف القانون السادس لمجمع نيقيا المسكوني الذي نص على التأكيد على الحقوق التاريخية لأسقفيتى الإسكندرية وأنطاكيا، وذلك لرفع كنيسة القسطنطينية إلى المقام الثاني بعد مدينة روما، على حساب كنيسة الإسكندرية العريقة" .
وبهذا فُتح باب الإضطهاد ضد المسيحيين المصريين على يد إخوانهم المسيحيين الغربيين، ولتأخذ كل من كنيسة روما وكنيسة الإسكندرية مسارين تاريخيين مختلفين.
مسارين ربما كانا السبب الرئيسي لإنغلاق الكنيسة المصرية الأرثوذكسية وجمودها عند أفكار القرن الخامس الميلادي وانفتاح الكنيسة الكاثوليكية وتطورها تجلت في وثائق مجمع الفاتيكان الثاني.
الإضطهاد كسبب للإنغلاق
بعد إنتهاء الصراع الديني في مجمع خلقيدونية بدأ الإضطهاد الملكاني التابع للإمبراطور ضد اليعاقبة المصريين على الفور بخلع البابا ديوسقورس الأول بفعل رفضه لقرارات المجمع المسكوني، حيث نُفى إلى جزيرة جاجرا ومعه مقاريوس أسقف ادكو، واثنان آخران. وقد مات هناك، بينما هرب مقاريوس الأسقف عائداً للإسكندرية بمساعدة البابا ديوسقورس حيث قُتل هناك على يد الرومان. وهى حقبة اضطهاد بولكيريا وماركيانوس. فأصدر الامبراطور ماركيانوس أمراً امبراطورياً بقتل كل من يعارض مذهب الطبيعتين، وابتدأ فى مصر عصر اضطهاد المسيحيين المصريين وكنيسة الإسكندرية، وعين البيزنطيين بطريرك -يتبع مذهبهم- وهو برتارس بدل ديوسقوروس، لكن الأقباط رفضوا الاعتراف به كما رفضوا قرارات مجمع خلقدونيا، واستفحل الخلاف بين مسيحيي مصر والبيزنطيين الموجودين فى مصر الذين تدعمهم الامبراطورية في كل وقت.
وفي عصر قيرس (المقوقس) استمر الإضطهاد 10 سنوات اُقتحمت فيها الأديرة وسُرقت محتويات الكنائس ودُفن الأقباط وهم أحياء وتم إذلال الأساقفة بربط رقابيهم بالسلاسل والأغلال وجرهم في الشوارع، وحرقهم كما حدث مع شقيق الأنبا بنيامين، والإغراق في البحر، وقُتل من الأقباط أعداد كبيرة على يد البيزنطيين المسيحيين. وقد يكون عدد من قُتل في هذه الإضطهادات البيزنطية أكثر من أعداد الشهداء أثناء مواجهة الرومان الوثنيين فى السنين الأولى للمسيحية.
وهاجم العسكر البيزنطي الكنيسة وقت الصلاة والإحتفال في ليلة عيد القيامة وقتلوا منهم أعداد كبيرة ونهبوا ممتلكات الكنايس من أموال وغيرها وأعطوها للبطريرك البيزنطي.
واستمر هذا الإضطهاد البيزنطي حتى استيلاء العرب المسلمين على مصر عام 641 م، أى 190 عام من الإضطهاد المسيحي – المسيحي، تخللها 10 سنوات من السيطرة الفارسية من 618 إلى 629 م. لم تخلوا أيضاً من الإضطهاد والقمع، يُصف بأن المصريين "قد خرجوا من حكم الفرس إلى حكم الروف قد رُفع عنهم التعذيب بالسياط ليحل بهم تعذيب أخر من لسع العقارب"
ومع استيلاء العرب المسلمين على مصر تنفس الأقباط الأرثوذكس الصعداء لبعض الوقت، وهو الوقت اللازم حتى يستطيع الحكام الجدد السيطرة على الدولة الجديدة وترسخ أقدامهم فيها، ثم بدأت دورة الإضطهاد الجديدة بعد سنوات قليلة من الإستيلاء على مصر وحتى بداية القرن 19 مع تولي محمد علي باشا للسلطة عندما بدأ رفع الإضطهاد عن الأقباط المسيحيين تدريجياً، ولكنهم أصبحوا أقلية سكانية في مصر. 12 قرن من الإضطهاد والتمييز ضد المصريين المسيحيين، شهدت الكثير من الثورات ضد هذا الإستبداد والإضطهاد، كان أشهرها ثورات البشموريين التي استمرت لما يقرب من 100 عام في موجات متتالية.
وبهذا نرى أن الكنيسة المصرية قد عاشت في ظل الإضطهاد والقمع طوال تاريخها باستثناء الفترة ما بين 313 و451 م. وذلك على عكس الكنيسة الكاثوليكية التي لم تتعرض للإضطهاد منذ العام 313م بل على العكس أصبحت صاحبة السلطة السياسية بالإضافة إلى سلطتها الروحية.
ولأن أجواء الإضطهاد تخلق شعور بالتهديد الوجودي تجعل من المستحيل على أى دولة أو جماعة أو فرد أن ينشغل بعالم الأفكار، وما هو صواب وما هو خطأ، إذ يتركز كل التفكير حول الحفاظ على الوجود وتخطي خطر الفناء. فنحن لا نستطيع أن نطلب من إنسان على وشك السقوط من فوق الهرم الأكبر أن ينقد نظرية بناء كائنات فضائية للهرم، فكل ما يشغل بال الآن هو كيفية النجاة بحياته من خطر السقوط.
لذلك كان من المستحيل على الكنيسة المصرية أن تُنتج فكر جديد وأن تتطور مع الزمن في ظل الإضطهادات التي تعرضت لها منذ نشأتها وحتى الآن باستثناء فترات قصيرة في حياتها.
ولعل في حياة المسيحية ذاتها ما يدل على ذلك حيث نلاحظ أن على مدار 3 قرون لم تحدث أى ثورات فكرية أو صراعات عقائدية بين المسيحيين، حتى الغنوصية المصرية في القرن الثاني لم تمثل هذه الثورة أو التحدي الكبير للفكر المسيحي أو العقيدة المسيحية. فكل ما كان يشغل آباء الكنيسة في هذه الفترة هو الحفاظ على الجماعة المسيحية الناشئة.
لكن مع تحول المسيحية إلى دولة ونزول مملكة المسيح إلى الأرض على يد الإمبراطور قسطنطين، وشعور المسيحيين والكنيسة بالأمان وزال خطر الفناء، بدأت تظهر الإختلافات العقائدية وبالتالي الإنقسامات الطائفية.
أيضاً، مع بدء رفع الإضطهاد عن الأقباط الأرثوذكس في عهد محمد علي باشا وصولاً إلى إلغاء الجزية وإدماجهم في الجيش المصري على يد سعيد باشا، كان من الطبيعي أن يظهر البابا كيرلس الرابع (1816 – 1861) المعروف بأبو الإصلاح الذي تولى الباباوية من 1854 إلى 1861. والذي تتبع اثر الدولة في التطوير والإصلاح فبدأ بتطوير التعليم الديني وبناء المدارس، وكان أعظم ما فعل في هذا المجال هو تعليم البنات، وقام بشراء مطبعة خاصة للكنيسة كما أنشأ مكتبة خاصة، ولعل ثقافته وسعة أُفقه هى ما جعلته يدعم قرار سعيد باشا بتجنيد الأقباط في الجيش المصري بالرغم من معارضة الأقباط ذاتهم والذين مثل باقي المصريين كانوا يرون في التجنيد كارثة حياتية وموت محقق، إلا أن البابا كيرلس الرابع كان يُدرك المعنى الكبير وراء هذا القرار، فهو ببساطة يُقر المساواة بين المصريين مسلمين ومسيحيين. هذا بخلاف الإصلاحات الكنسية الأخرى مثل منع الكهنة من عمل عقد أملاك عند إجراء الخطوبة حتى تترك فترة للتعارف، تحذير الكهنة من تزويج البنات القاصرات، تحذير تزويج النساء المترملات المتقدمات في السن من الشباب، تحتيم أخذ رضاء وموافقة الزوجين قبل الإكليل المقدس. كما بدأ يصلح الأحوال المعيشية للرهبان وربط مرتبات شهرية لبعضهم، وبدأ في عمل مدرسة إكليريكية لتعليمهم.
وربما أفضل من يُعبر عن تأثير هذه الأجواء الحرة في وسط الأقباط الأرثوذكس هو المفكر المصري المسيحي سلامة موسى (1887 – 1958)، حيث سمحت له هذه الأجواء بنقد الكنيسة في كتابه تربية سلامة موسى"ومع أني نشـات في المسيحية، وأحتضنتني الكنيسة أيام طفولتي وشبابي، فإنها كانت في تلك السنين الأولي من عمري في جمود لا يحمل على الحماسة أو يبعث على الولاء، وليس من شك أن الكنيسة قد نهضت هذه الأيام، وهي الآن غير ما كانت عليه قبل خمسين سنة، وقد تغير إحساسي نحوها تغيرات مختلفة. فقد عزفت عنها أيام الشباب؛ لأن وطأة العلوم العصرية كانت شديدة على نفسي. ثم عدت إليها في حنان فوجدت فيها تاريخنا المعذب الممزق، ووجدت صوت الفراعنة ينطلق عاليا من منابرها.فأصبحت الكنيسة القبطية عندي كنيسة قومية مصرية". فهو هنا ينقد جمودها ويحيى خطوات اصلاحها بل لا يرى فيها رمز قومي أكثر منه رمز ديني. وفي مقال بعنوان ثلاثة مبادئ مسيحية يقول :
يوجد ثلاثة مبادئ عليا هي في جوهرها مبادئ مسيحية، لا تقوم بغيرها نهضة الشعوب، وهذه الثلاثة مبادئ هي:-
1- المبدأ الأول هو أن الكنيسة تخدم شعبها وليس الشعب هو الذي يخدم الكنيسة.
2- المبدأ الثاني هو أن الله آب لجميع البشر، وجميع البشر إخوة.
3- المبدأ الثالث هو أن الطبيعة حسنة ولكن المجتمع هو الذي يفسدها.
نرى هنا نقد واضح لعلاقة الكنيسة بشعب الكنيسة وأنها يجب أن تكون في خدمته لا العكس، ثم يؤكد على الأخوة الإنسانية بغض النظر عن العقيدة، ثم الطبيعة الخيرة للإنسان.
كما هاجم تعيين قساوسة من غير المتعلمين فكتب مقالا بتاريخ 21 فبراير 1938 عنوانه: "رسامة القسيسين من غير المتعلمين خطر يجب أن تكافحه البطريركية". كما أكد على نفس الفكرة في مقال هام عنوانه "بواكير الإصلاح في البطريركية" نشر في جريدة مصر بتاريخ 25 يوليو 1946 يدعو فيه دعوة واضحة وصريحة إلى ضرورة الاهتمام للنهوض بالكلية الأكليركية فيقول: "نحن ندعو إلى النهوض بالمدرسة الإكليركية بزيادة ما ينفق عليها حتى نستطيع أستخدام خير المعلمين الأكفاء وكذلك ندعو الآباء المطارنة إلى الاتفاق على ألا يرسموا أحد قسيسا إلا إذا كان من خريجي هذه المدرسة. وبذلك يضمن طلبتها مستقبلهم ويقبلون في رغبة وحماس على الالتحاق بها" .
هكذا أنتجت أجواء الأمان والحرية والمواطنة إصلاحات كنسية وفتحت المجال لإنتقادات العلمانيين مثل سلامة موسى للكنيسة. إلا أن هذا الإصلاحات سريعاً ما انتكست وعادت الكنيسة للإنغلاق والأقباط إلى الإنكفاء على ذاتهم مع ظهور التهديد الوجودي، مع سبعينات القرن العشرين والصحوة الإسلامية التي بدأت في تهديد كل ما هو غير مسلم وغير إسلامي.
الإنغلاق العام للمجتمع المصري
تظل الكنيسة المصرية الأرثوذكسية جزء من المجتمع المصري ذو الأغلبية المسلمة وتتأثر بكل مؤثراته وتحمل كل سماته وإيجابيته وسلبياته. فإذا كانت الكنيسة الكاثوليكية قد تطورت بتطور المجتمعات الأوروبية وتطور علومها وفلسفتها وأفكارها، فأحد أسباب جمود الكنيسة الأرثوذكسية هو جمود المجتمع المصري وجمود أفكاره وغياب فلسفته وموت علومه.
فكما تقدم كان أهم أسباب تطور الكنيسة الكاثوليكية هو التطور الفكري الذي حدث بالمجتمع الأوروبي وانتشار قيم التنوير والحداثة، ما مثل ضغط فكري وفلسفي وعلمي على الكنيسة وعقيدتها فكان عليها إنا أن تتطور مع هذه الأفكار والقيم وتتوافق مع حقائق العلم الحديث أو تنقرض، فاختارت التطور.
إلا أن هذا لم يحدث حتى هذه اللحظة، فالمجتمع المصري مازال يعيش بأفكار القرون الوسطى ويقاوم ويعارض قيم التنوير والحداثة، ويرى فيها مخالفة صريحة لعقائد الأديان الإبراهيمية. فلم يوجد في المجتمع المصري نُخب فكرية وفلسفية وعلمية كتلك التي وُجدت في أوروبا منذ القرن 16 وحتى اليوم، لهذا لم تتعرض الأديان في مصر ومنها المسيحية والكنيسة الأرثوذكسية لأى تحديات عقائدية، وهو ما جلعها لا تشعر بأى ضرورة لتطوير نفسها أو إصلاح أى من مؤسستها.
فكما الأفراد، لا تسعى للتغيير إلا تحت ضغط الحاجة والضرورة، بخلاف ذلك لن تُغير أى مؤسسة ما اعتادت عليه خاصة إذا كان الأمر يتعلق بالنسبة لها بالعقيدة والدين والحق والباطل.
الخاتمة
هكذا نرى أن هناك سببين رئيسيين لجمود الكنيسة المصرية الأرثوذكسية، الأول هو شعورها الدائم بالخطر على وجودها، ما يجعل همها وهم المسيحيين المصريين عموما هو الحفاظ على وجودها، حيث يُنظر إلى صراع الأفكار هنا باعتباره ترف فكري. والثاني، هو جمود وانغلاق البيئة المحيطة ما يجعلها آمنة من أى تحديات فكرية تُجبرها على التطور. وبهذا يكون الطريق إلى تطور الكنيسة المصرية، هو إقرار مبدأ المواطنة في مصر ما يرفع عن المسيحيين الخوف من الإندثار وبالتالي الإنفتاح على أفكار الحداثة وقيم التنوير، والثاني هو اقرار مبدأ حرية الرأى والتعبير، ليفتح الباب أمام ظهور مفكرين وفلاسفة وعلماء مصريين قادرين على نقد المؤسسات الدينية والنصوص المقدسة دون الخوف من سجن أو قتل.