في مثل هذا اليوم 16 يوليو 1882م..
أحمد عرابي يرفض طلب الخديوي توفيق بالتوقف عن تحصين الإسكندرية، ويبعث إلى جميع أنحاء البلاد ببرقيات يتهم فيها الخديوي بالانحياز إلى الإنجليز، ويحذر من اتباع أوامره، وأرسل إلى "يعقوب سامي باشا" وكيل نظارة الجهادية يطلب منه عقد جمعية وطنية ممثلة من أعيان البلاد وأمرائها وعلمائها للنظر في التهديد البريطاني وما يجب عمله.
أحمد عرابي يرفض طلب الخديوي توفيق بالتوقف عن تحصين الإسكندرية، ويبعث إلى جميع أنحاء البلاد ببرقيات يتهم فيها الخديوي بالانحياز إلى الإنجليز، ويحذر من اتباع أوامره، وأرسل إلى "يعقوب سامي باشا" وكيل نظارة الجهادية يطلب منه عقد جمعية وطنية ممثلة من أعيان البلاد وأمرائها وعلمائها للنظر في التهديد البريطاني وما يجب عمله. تزعمت بريطانيا جهود القضاء على عرابي بينما تراجع الدور الفرنسي إلى الإكتفاء بالمشاهدو وسحبت فرنسا أسطولها إلى بورسعيد. في السابع من يوليو وجدت بريطانيا الذريعة التي كانت في إنتظارها، كانت الحكومة المصرية قد نصبت بعض المدافع على قلعة الإسكندرية فإعتبرت بريطانيا أن هذا عملا عدائيا ضد حكومة صاحبة الجلالة. في 10 يوليو 1882 وجه قائد الأسطول البريطانى إنذارا للحكومة المصرية إما تسليم القلعة للأسطول البريطاني وإلا سوف تضرب الإسكندرية من البحر. مارس الخديوي توفيق لعبته المعتادة حين قابل عرابي وشجعه على مقاومة المعتدين بينما كان قد إتصل سرا بقائد الأسطول البريطاني ودعاه إلى الهجوم على عرابى. لم يقبل عرابى الإنذار البريطانى وإنتظر تنفيذ البريطانيين لتهديدهم. بدأ الإنجليز في ضرب الإسكندرية يوم 12 يوليو 1882 ونزلت قواتهم إليها في اليوم التالى بعد أن قرر عرابى أن يسحب قواته منها وأن يتحصن عند كفر الدوار. حين سمع الخديوي توفيق بإنسحاب عرابى أمام الإنجليز تشجع وظهر على حقيقته حيث أعلن عرابى متمردا في الرابع والعشرين من يوليو. وبدلاً من أن يقاوم الخديوي المحتلين، استقبل في قصرالرمل بالإسكندرية الأميرال بوتشامپ سيمور قائد الأسطول البريطاني، وانحاز إلى الإنجليز، وجعل نفسه وسلطته الحكومية رهن تصرفهم حتى قبل أن يحتلوا الإسكندرية. فأثناء القتال أرسل الإنجليز ثلة من جنودهم ذوي الجاكتات الزرقاء لحماية الخديوي أثناء انتقاله من قصر الرمل إلى قصر التين عبر شوارع الإسكندرية المشتعلة. ثم أرسل الخديوي إلى أحمد عرابي في كفر الدوار يأمره بالكف عن الاستعدادات الحربية، ويحمّله تبعة ضرب الإسكندرية، ويأمره بالمثول لديه في قصر رأس التين؛ ليتلقى منه تعليماته. صارت المواجهة مكشوفة بين كل الأطراف منذ ذلك التاريخ. قررت الحكومة البريطانية أن تكون المواجهة شاملة وأن تكون الحرب كاملة فجلبت المزيد من قواتها إلى الحرب. تم تحريك 15,000 جندى من مالطة وقبرص بالإضافة الى 5,000 من الهند بإتجاه مصر مما رفع تعداد قوة الهجوم على مصر إلى 30,000 جندى وضعت تحت قيادة السير جارنيت ولسلى. كانت الدولتان قد اتفقتا قبل مأساة الإسكندرية على وجوب العمل على حل المسألة المصرية، إذ لم يفد وجود الأسطولين شيئًا؛ وقد اقترح رئيس حكومة فرنسا على إنجلترة في ٣٠ مايو سنة ١٨٨٢ عقد مؤتمر دولي للنظر في الأمر، إذ إن الحالة في مصر تتطلب ذلك. وكانت فرنسا ترمي من وراء ذلك في الواقع أن تحول بين إنجلترة وبين الانفراد بالعمل، فقد باتت تتوجس خيفة من سياستها، ووافقت إنجلترة على ذلك لتخفي نياتها. ولن تعجز إنجلترة أن تتخذ من المؤتمر أداة تنتفع بها إذا لزم الحال، كما أنها لن تعدم حيلة للانفراد بالعمل إذا دعت الضرورة، كما سيأتي بيانه. وكانت تركيا تعارض فكرة هذا المؤتمر؛ لأنها صاحبة الحق الشرعي في مصر ولا حق لغيرها من الدول في النظر في المسألة المصرية؛ لذلك أوفد السلطان درويشًا ورأى في ذلك سببًا عمليًّا يبرر به رفضه فكرة المؤتمر؛ وكان في إنعامه على عرابي وشكره إياه على إخلاصه في أداء واجبه ما يتضمن ألا محل لما تدعيه إنجلترة وفرنسا من خطر العسكريين في مصر. ولكن أين ما يعمل السلطان مما كان يدبر الإنجليز؟ لقد دبر الإنجليز وشركاؤهم مأساة الإسكندرية؛ لتكون حجة لهم على صحة ما يقولون، ومن هنا يتبين لنا خطر هذا الحادث المشؤوم. إنعقد المؤتمر في ٢٣ يونيه في السفارة الإيطالية بالآستانة، ولم يشترك فيه السلطان وذلك على الرغم من أن البلد الذي يبحث المؤتمر في شؤونه تابع للسلطان. وكان المؤتمر ينظر في إرسال قوة تركية إلى مصر، ويبحث الشروط التي توضع لذلك؛
والحق أن المؤتمر كان مهزلة من المهازل السياسية: فقد كان مما أصدره المؤتمر الميثاق الآتي، وذلك في ٢٥ يونيه: «تتعهد الحكومات التي يمثلها الموقعون على هذا أنها في كل تسوية يقتضيها عملها المشترك؛ لتنظيم شؤون مصر ألا تسعى إلى امتلاك شيء من أراضيها، ولا إلى أي إذن خاص ولا إلى أي فائدة تجارية لرعاياها إلا ما كان عامًّا يمكن أن تناله أية أمة أخرى». وفي ٦ يولية أعلن المؤتمر في جلسته السابعة قرارًا يقضي بإرسال قوة تركية إلى مصر لإعادة الأمن والنظام فيها. وبعد ستة عشر يومًا من الميثاق وخمسة أيام فقط من ذلك القرار، ضربت إنجلترة الإسكندرية بمدافعها الضخمة وبدأت تحتل مصر، ولا يزال المؤتمر قائمًا في الآستانة للنظر في المسألة المصرية على أساس دولي؛ وستبلغ مهزلة المؤتمر غايتها حين يعقد ذلك المؤتمر جلسته الثامنة بعد ضرب الإسكندرية بأربعة أيام لينظر في الأمر! ولقد كان من قرارات المؤتمر الصريحة، قبل ذلك أن وافق المجتمعون نيابة عن حكوماتهم على عدم التدخل في مصر أثناء انعقاد المؤتمر. ولقد استطاع لورد دفرين مندوب إنجلترة في المؤتمر بعبارة واحدة أن يجعل الأمر كله لعبة لاعب، وذلك بأن حمل المؤتمر على إضافة تحفظ على قرار عدم التدخل نصه: «إلا عند الضرورة القصوى»، وما أيسر أن تخلق إنجلترة في أية لحظة تلك الضرورة القصوى. والواقع إن إنجلترة كانت قد وطدت العزم على الانفراد بالعمل، انظر إلى قول كرومر في كتابه وقد جاء ذكر المؤتمر: «ليس من الضروري أن نقف طويلًا عند إجراءات المؤتمر المملة … وقد كان اللورد جرانفل واللورد دوفرين يفهمن تمام الفهم ماذا يريدان، ولقد رغبا في أن يوطدا النظام في مصر، وكانا يقظين إلى تلك الحقيقة التي مؤداها أنه بغير استخدام القوة المادية فلن يوطد ذلك النظام». في أول يوليه كتب سيمور إلى حكومته أن عرابيًّا يستعد بجمع السلاح، وأنه سوف يضع الأسطولين في فخ، وذلك بسد البوغاز بالأحجار. وتلقى سيمور في ٣ يوليه هذه البرقية الخطيرة: «امنع كل محاولة لسد البوغاز إلى الميناء، وإذا استؤنف العمل في التحصينات أو إذا وضعت مدافع جديدة، فأخبر القائد الحربي بأن لديك أوامر بمنع ذلك؛ فإذا لم يوقف ذلك فورًا فحطم التحصينات، وأسكت البطاريات إذا أطلقت نيرانها». وفي ٦ يولية أرسل سيمور إلى طلبة عصمت قائد حامية الإسكندرية يقول «سيدي: لي الشرف أن أحيط سعادتكم علمًا، بأني علمت من مصدر رسمي أن مدفعين أو أكثر أضيفا بالأمس إلى خطوط الدفاع البحرية، وأن استعدادات حربية يجري عملها في الواجهة الشمالية للإسكندرية ضد الأسطول الذي تحت قيادتي؛ وأرى لزامًا علي والحالة هذه أن أنبه سعادتكم إلى أنه إذا لم توقف الأعمال، أو إذا أوقفت ثم استؤنفت. فإن واجبي يقضي بأن أطلق مدافعي على الأعمال الجاري بناؤها». ورد طلبة باشا برسالة جاء فيها «وردًّا على ذلك أؤكد لكم أنه لا أساس لهذه الأخبار، وأنها من قبيل خبر التهديد بسد مدخل البوغاز الذي اتصل بكم وتحققتم من كذبه، وإني لمعتمد على مشاعركم الإنسانية الصادقة وأرجو أن تتقبلوا احتراماتي». وأبرق سيمور إلى حكومته في ٩ يوليه يقول: «إنه ليس لدي أي شك في حدوث الاستعدادات الحربية، وقد وضعت مدافع جديدة في حصن السلسلة، وسأخطر قناصل الدول الأجنبية صباح غد، وأبدأ بالضرب بعد أربع وعشرين ساعة ما لم تسلم إلى الحصون القائمة في شبه جزيرة رأس التين، والحصون المشرفة على مدخل الميناء». وفي صباح ١٠ يوليه تلقى طلبة باشا إنذارًا نهائيًّا هذا نصه: «لي الشرف أن أخطر سعادتكم أنه لما كانت أعمال الاستعدادات العدائية الموجهة ضد الأسطول، الذي أتولى قيادته آخذة في الازدياد طول نهار أمس في حصون صالح وقايتباي والسلسلة، فقد عقدت العزم أن أنفذ غدًا ١١ الحالي عند شروق الشمس ما أعربت لكم عنه من عمل في كتابي المؤرخ يوم ٦ الحالي، وذلك إن لم تسلموا إلي في الحال قبل هذه الساعة البطاريات الموضوعة في شبه جزيرة رأس التين، وعلى شاطئ ميناء الإسكندرية الجنوبي بقصد تجريدها من السلاح». هذه هي أقصوصة الذئب والحمل في صورتها الجديدة. ولا نستطيع أن نتصور كيف يكون تحصين أمة شواطئها تلقاء سفن أجنبية تتهددها عملًا عدائيًّا يسوغ الشر والعدوان؟ إن مثل ذلك كمثل لص أراد أن يقتحم دارًا وسلاحه في يده، فإذا تناول صاحب الدار شيئًا يدفع به عن نفسه هذا العدوان جعل اللص من ذلك مسوغًا لأن يقتله، ويأخذ متاعه وداره! وكيف تكون قلاع الإسكندرية هي المعتدية على بوارج الأسطول، والقلاع التي لم تنتقل إلى السفن لتضربها، وإنما السفن هي التي جاءت تتهدد المدينة في غير موجب، والمؤتمر الدولي قائم في الآستانة ينظر في المسألة المصرية؟
ومع ذلك فقد قرر دي فرسنيه رئيس الوزارة الفرنسية في كتابه المسألة المصرية «أن المعلومات التي لديه لم تكن بالخطورة التي تبدو من رسائل الأدميرال سيمور، بحيث إن ضرب الإسكندرية في الظروف التي وقع فيها، إنما كان عملًا هجوميًّا لا دفاعيًّا»، وقرر كذلك أن «سد البوغاز لم يشرع فيه في وقت من الأوقات». ويقول جون نينيه السويسري في كتابه «عرابي باشا»: إني أؤكد بشرفي ما تحققته إذ كنت أزور الحصون يوميًّا مصحوبًا بكبار الضباط، أنه منذ مجيء أوامر السلطان بالكف عن الترميمات لم يطرأ أي تغيير على أية بطارية من جهة الميناء أو على البحر، ولم يحصل أي ترميم في الحصون ولم ينصب فيها أي مدفع جديد». أما فرنسا فإنها منذ يوم ٣ يوليه قد رفضت أن تعمل مع إنجلترة، وذلك احترامًا منها لما أقره مؤتمر الأستانة؛ ولأنها تعد مثل هذا التدخل عملًا عدائيًّا لا دفاعيًّا، وكتبت الحكومة الفرنسية إلى قائد الأسطول الفرنسي بالإسكندرية بأن يبتعد إلى بورسعيد إذا أصر القائد الإنجليزي على الإنذار النهائي بضرب الإسكندرية. وتنفست إنجلترة الصعداء، فذلك ما كانت تتمناه من زمن لتنفرد بالعلم ولتلتهم مصر وحدها. أما تركيا فإن موقفها من الأزمة من أول الأمر موقف المتردد الحائر كما تجلى في بعثة درويش. وقد ظلت حكومة تركيا حائرة بين أن تأخذ جانب توفيق، وقد انحاز إلى الأجانب على حساب مصالحها وحقها في مصر، أو أن تأخذ جانب عرابي فتؤيد بذلك الحركة الدستورية الحرة، العمل الذي كانت تخشاه شر خشية، وبخاصة في ولاية تابعة لها فهي ما تزال تحكم بلادها حكمًا مطلقًا. ولقد اتصفت إزاء مؤتمر الآستانة بالتردد والغفلة حتى صارت إنجلترة لا تقيم لها وزنًا، وأقبلت تعتدي على مصر كأنه لا علاقة بين مصر وبين السلطان. قفت مصر موقف البطولة والشرف في هذه العزلة الدولية، فقد عقد مجلس الوزراء برياسة الخديو وحضره درويش باشا. واضطر توفيق أن يجاري الوطنيين ريثما تحين له الفرصة كعادته في جميع مواقفه، وأرسلت مصر ردها التاريخي على الإنذار ونصه: «نحن هنا وفي بلادنا، ومن حقنا بل ومن واجبنا أن نصونها ضد كل عدو يبادئنا بالعدوان … إن مصر المحافظة على حقوقها وعلى شرفها لا تستطيع أن تسلم أي مدفع أو أية قلعة مهما تكن إلا إذا اضطرتها الحرب؛ إن مصر لتحتج على إرسالكم إنذار اليوم، وتلقي مسئولية تعدي الأسطول وضرب الإسكندرية ونتائجه المباشرة وغير المباشرة على رأس الدولة التي تجرؤ في وسط هذا السلام الشامل على قذف القنبلة الأولى ضد الإسكندرية، تلك المدينة المسالمة، مستهترة بحقوق الأمم وقوانين الحرب». وكان الخديو قد تدبر من قبل أين يقيم عند الضرب، فقد أرسل مستر كارتريت الذي ناب عن مالت برقية إلى حكومته يوم ٧ يوليه جاء فيها: «أتشرف بإخبار فخامتكم أن الخديو استدعى السير أوكلند كلڨن هذا الصباح؛ ليدلي إليه بالطريق الذي يقترح سموه اتباعه في مواقف معينة تتصل بحركاته الشخصية، وفي حالة ضرب الإسكندرية بمدافع الأسطول البريطاني سيأوى سموه إلى قصر ترعة المحمودية حيث يرافقه درويش باشا، وكلما كان الفراغ من الأمر كله أسرع قل الخطر الذي يتعرض له شخصيًّا، وكانت لهجة سموه أثناء المقابلة هادئة، وكان يضبط نفسه واختتم حديثه بأن رجا من السير أوكلند كلڨن أن يطلع فخامتكم على ما اعتزم، وإني أقترح في حالة الضرب أن أخبر درويش باشا قبل إقلاعي، أن حكومة جلالة الملكة تلقي على عاتقه تبعة سلامة سموه الشخصية». وتلقى في اليوم التالي ردًّا بموافقة حكومته على أن يلقي على عاتق درويش سلامة الخديو. ضرب الإسكندرية في الساعة السابعة من صباح ذلك اليوم المشؤوم ١١ يوليه سنة ١٨٨٢ أطلق الأدميرال الإنجليزي سيمور أولى قذائفه على مدينة الإسكندرية دون أي اعتداء منها؛ بحجة الدفاع العادل المشروع عن النفس! وذلك على مسمع من العالم المتمدن كله. وبدأ بذلك هذا العدوان الشنيع على مصر، وليس في العالم يومذاك دولة يتأثم ضميرها؛ مما تصبه إنجلترة على الحركة القومية الوطنية وعلى السلم والدستور في مصر. وكان الأسطول البريطاني مكونًا من ثماني مدرعات كبيرة وخمس مدفعيات، وسفينة للطوربيد وأخرى لأعمال الكشف، وكانت مدافع الأسطول سبعة وسبعين من النوع الضخم القوي من طراز أرمسترونج. وكانت حصون الشاطئ تمتد من ناحية العجمي في الغرب إلى أبو قير في الشرق، وكان عددها نحو عشرين حصنًا أو طابية، ويدخل في ذلك اثنان في داخل المدينة هما كوم الناضورة وكوم الدكة. وإذا استثنينا الحصنين الأخيرين وهما من منشآت نابليون وقلعة قايتباي، وهي ترجع إلى القرن الخامس عشر، كانت بقية الحصون من منشآت محمد علي، وكانت مدافعها ويبلغ عددها تسعة وعشرين ومئتين قديمة الطراز ضعيفة، قريبة المرمى، إلا تسعة وأربعين منها كانت من طراز آرمسترونج. ومما يحاول بعض المؤرخين إلصاقه بعرابي من المآخذ، أنه ترك حصون الإسكندرية ضعيفة فلم تستطع مقاومة السفن الإنجليزية، وينسى هؤلاء أنه ما دام أن الخديو كان في جانب الإنجليز والفرنسيين منذ حضرت سفن الدولتين، ومنذ قدمت المذكرة المشتركة لم يكن في وسع عرابي أن يعمل كما يحب. وماذا عسى أن يكون الحال إذا رفض الخديو؟ إن وزارة البارودي لم تستطع أن تنفذ حكم المجلس العسكري على الشراكسة؛ لأن الخديو عارض في ذلك. هذا إلى أن الأجانب كانوا لمصر بالمرصاد، وقد رأينا كيف أقام سيمور الدنيا وأقعدها؛ لأنه كما زعم رأى تحصينات في السواحل المصرية.
وكان طوبجية السواحل تحت قيادة إسماعيل بك صبري، ويقول عرابي في مذكراته: إنهم لم يكونوا يزيدون عن ستة مئة. وكان بالمدينة من قوات الجيش اثنا عشر ألفًا من المشاة؛ وقد أصدر عرابي تعليماته إلى صبري في ليلة ١٠ يوليو، وأعلمه أن مجلس الوزراء قرر ألا تجيب الحصون إلا بعد الضربة الخامسة من الأسطول؛ ووزع صبري ضباطه على الحصون استعدادًا للمعركة، ووزع عرابي حامية المدينة وراء الحصون من قلعة العجمي إلى برج السلسلة، وعهد إلى أورطتين من المشاة بالمراسلة بين الحصون. وأجابت الحصون بعد خمس دقائق من ابتداء الضرب، واستمات آلاي السواحل في الدفاع، وأبدى همة ونشاطًا وحماسة وطنية شهد بها كثير من الأجانب، وذلك على الرغم من عنف المدافع الإنجليزية وشدة فتكها وعظم تدميرها، ومهارة السفن الإنجليزية في الاقتراب والابتعاد، والاعتصام بدخان كثيف أثناء الضرب، وشباك قوية من الفولاذ كانت ترد عنها قذائف الحصون. واستمر الضرب من الجانبين حتى الساعة الحادية عشرة، وكانت قذائف الإنجليز تلقي النار والدمار على المدينة في شدة مروعة، وسكتت السفن قليلًا، ثم استأنفت الضرب وجاوبتها الحصون حتى الساعة الثانية بعد الظهر، واستأنف الأسطول الضرب في شدة وظلت تجاوبه الحصون حتى منتصف الساعة السادسة. ثم أظلم الليل وقد سكتت الحصون فلن تجيب بعد ذلك. فقد دمرتها مدافع الأسطول تدميرًا … وتهدمت في المدينة أبنية كثيرة ومساكن واحترق بعضها، وقد هجرها كثير من أهلها منذ بدأ الضرب في هرولة ورعب. وقف المصريون وإن حلت بهم الهزيمة موقف الكرامة والبطولة فبذلوا غاية ما في طوقهم، ولطالما ألقي في روع الناس أن مصر لم تجاهد حين اعتدي عليها، مع أن المصريين من الجند ومن أهالي الإسكندرية أثبتوا شجاعتهم في هذا اليوم وفي الأيام التي جاءت بعده وتطلبت دفاعًا وإباءً، قال جون نينيه وقد شهد هذا اليوم: «ولا يسعنا إلا أن نعترف بأنها كانت مجزرة وحشية لا موجب لها ولا مسوغ، ولم يكن الباعث عليها إلا الشهوة الوحشية المتعطشة للدماء، وكنت أتوق إلى أن أسأل أولئك الذين كانوا يضربون، ويطلقون مدافعهم هل يستطيعون حين يعودون إلى بلادهم، ويتحلقون حول موائد الشاي في بيوتهم أن يتحدثوا إلى ذويهم عما فعلته تلك المجازر البشرية من الفتك والتخريب؟ إني لفي شك من ذلك، فأية إهانة لحقت الأمة البريطانية حتى تثأر من مصر على هذه الصورة الفظيعة؟ ومع ذلك فما كان أروع منظر الرماة المصريين الذين كانوا خلف مدافعهم المكشوفة، كأنما هم في استعراض حربي لا يخافون الموت الذي يحيط بهم، وكانت معظم الحصون بلا حواجز تقيها ولا متاريس، ومع هذا فقد كنا نلمح هؤلاء البواسل من أبناء النيل خلال الدخان الكثيف، وكأنهم أرواح الأبطال الذين سقطوا في حومة الموت قد بعثوا ليناضلوا العدو ويواجهوا نيران مدافعه. وكان القادة يزورون الحصون ويستحثون الرجال، وقد أدى الجميع واجبهم رجالًا ونساءً، كبارًا وصغارًا، ولم تكن ثمة أوسمة أو مكافآت يستحث أولئك الفلاحين على أداء واجبهم. وإنما كانت تثير الحماسة في نفوسهم عاطفة الوطنية والثورة على ما استهدفوا له من فظائع، وهم في مواقفهم البواسل المجهولون الذين لم يفكر أحد فيما تحملوا من آلام». وقال الشيخ محمد عبده: «تحت مطر الكلل ونيران المدافع كان الرجال والنساء من أهالي الإسكندرية، هم الذين ينقلون الذخائر ويقدمونها إلى بعض بقايا الطوبجية الذين كانوا يضربونها، وكانوا يغنون بلعن الأدميرال ومن أرسله». في اليوم التالي عادت السفن إلى الضرب في الساعة العاشرة.
وكان مجلس الوزراء قد اجتمع في اليوم السابق، وقرر إبلاغ سيمور أن ما كان يطلبه قد تحقق له بتهديم الحصون، فلا داعي بعد ذلك للضرب وليس بين إنجلترة ومصر ما يستوجب العدوان، وقرر أن ترفع الأعلام البيضاء لطلب الهدنة توطئة للمفاوضة. وقد تم ذلك بعد أن استؤنف الضرب. ولكن سيمور طلب الترخيص له بإنزال جند من بحارة السفن؛ لاحتلال ثلاث قلاع هي العجمي والدخيلة والمكس. وعرض هذا الطلب على الخديو، ولكنه لم يجرؤ على قبول هذا الطلب، ثم إنه كان لا بد له أن يرجع إلى السلطان؛ لأنه لا يملك التنازل عن أي جزء من الأراضي المصرية. واستأنفت السفن الضرب في الساعة الرابعة، ثم رفعت الراية البيضاء ثانية على بعض الطوابي فسكتت السفن. وقد بلغ عدد الضحايا من المصريين نحو ألفين غير من جرحوا، أما الإنجليز فلم يزد قتلاهم على خمسة وجرحاهم على تسعة عشر. وأما المدينة التي كانت تراوحها نسائم البحر الندية، وتغاديها فقد اندلعت فيها ألسنة النيران في صورة مروعة كأن الجحيم كانت تزفر عليها بنارها، وقد لبثت النار بها بضعة أيام، وظلت سحب الدخان تتراكم وتنعقد فوق شوارعها الموحشة المتهدمة، وخيمت الكآبة على ذلك الثغر الذي انطفأت بسمته أيامًا طويلة نتيجة لعدوان سيمور. ولقد ذهبت الآراء عدة مذاهب بشأن هذا الحريق، وقد حاول الإنجليز أن يعزوه إلى عرابي كما عزوا إليه من قبل مذبحة الإسكندرية التي اقترفوها، وذهب جون نينيه إلى أن النيران كانت من فعل قذائف الأسطول في الغالب، وإن كانت عدة عناصر في رأيه اشتركت في هذا الحريق، منها بعض الأوروبيين الذين بقوا في المدينة بقصد النهب، ومنها بعض الأروام والمالطيين من أصحاب الدكاكين؛ كي يطلبوا بعد ذلك تعويضًا كبيرًا، ومنها بعض البدو من قبيلة أولاد علي. ويقول الشيخ محمد عبده: «بين من حرقوا الإسكندرية أروام بلباس عرب رؤيت جثثهم بتلك الثياب أثناء الحريق، ومنهم عربان من أولاد علي ممن كانوا على صلة بالخديو، ومنهم أوروبيون بقصد المبالغة في التعويضات». وهناك من يذهب إلى أن سليمان سامي داود قائد الآلاي السادس هو الذي أمر جنوده بإضرام النار في المدينة، كعمل يقتضيه الدفاع إذا أراد أن يعرقل به نزول الإنجليز إلى البر. أو لعله فعل ذلك بدافع الغيظ من عزم الإنجليز على دخول المدينة، ومهما يكن من الأمر، فمن الخطأ أن يرد الحريق إلى سبب واحد من الأسباب التي ذكرت، والمعقول أن تسببه هذه العناصر جميعًا وبخاصة قذائف الأسطول. غادر عرابي وقواده وجنوده المدينة ليتخذوا ما يلزم من عدة للدفاع عن البلاد. وكان الخديو مقيمًا في سراي الرمل أثناء الضرب ليبعد عن الخطر، وفي يوم ١٣ يوليه شاور الخديو من كان معه من الأمراء والأعيان ماذا يعمل إذا احتل الإنجليز الإسكندرية، فلم يرض أحد أن يبقى بها، وأشار عليه درويش باشا بالسفر إلى بنها ثم إلى السويس، وأشار غيره بالذهاب إلى العاصمة فما يليق بحاكم البلاد أن يظل مقيمًا في بلد تقع في يد أعدائه. ولكن الخديو كان قد عقد العزم على الالتجاء إلى الإنجليز. وهذا من أخطر الحوادث في تاريخ هذه الثورة؛ لأن الإنجليز سيزعمون أنهم يدافعون عن سلطته الشرعية ضد الثائرين. وفاجأ الخديو الحاضرين بقوله: «إن أهم الأمور أن نجعل الأدميرال سيمور على علم بأمرنا إذا أمكن ذلك». وفي نفس اليوم أرسل توفيق إلى سيمور يخبره أنه اعتزم الحضور إلى سراي رأس التين، وبلغ توفيق السراي في الساعة الرابعة بعد الظهر، ومعه أسرته وحاشيته ودرويش باشا فإذا به يرى الحرس ببابها من الجنود البريطانيين، وإذا بسيمور يتلقاه في ساحتها يحيط به كبار رجاله، ولقد هنأوا الخديو بسلامته، كما هنأه قناصل الدول، ودخل توفيق القصر وحرسه اليوم من البريطانيين. وفي ١٤ يوليه أبرق سيمور إلى حكومته يقول: «لقد احتلت رأس التين ووضعنا فيها بحارة ومدفعية كما وضعنا ست بطاريات تواجهها.
لا تزال الإسكندرية تحترق، ولكني أرفع الأنقاض من الشوارع، والخديو سالم في قصره يحرسه ٧٠٠ من البحارة». ومعنى ذلك أن الخديو أصبح نهائيًّا تحت حماية الإنجليز، ولم يعد يبالي بالسلطان ولا بمندوب السلطان. وتوالى نزول الإنجليز إلى المدينة يوم ١٥ يوليه توطئة لاحتلال البلاد، وإذا كان الإنجليز قد ضربوا قلاع الشواطئ؛ لأنها كانت تهدد سفنهم كما زعموا، ففيم نزولهم بعد ذلك إلى المدينة؟ نسحبت حامية الإسكندرية لتتخذ مكانًا حصينًا؛ وذلك لإقامة خطوط للدفاع عن داخل البلاد، وقد اختارت جهة كفر الدوار موطنًا لهذا الدفاع. وهكذا ينتقل تاريخ الثورة القومية إلى طور جديد، هو الحرب بين هذه الثورة وبين الطامعين المستعمرين من الإنجليز. ولم يكن أمام مصر في الواقع إلا أن تختار إحدى سبيلين: التسليم طائعة مختارة للإنجليز ليقضوا على نهضتها القومية الحرة، أو الحرب التي تبذل فيها الأنفس والأموال والتي تتنهي إما إلى نصر يتحقق به كل شيء، وإما إلى هزيمة تذهب بكل شيء إلا الشرف والكرامة. وقد اختارت مصر السبيل الثانية تحت زعامة عرابي، وتركت للخديو السبيل الأولى. وما كان لعرابي وأصحابه أن يفعلوا غير ما فعلوا، وإلا فقد كانت حركتهم إذن من أول الأمر هزوًا ولعبًا. تنكر راغب باشا رئيس الوزراء كما تنكر الخديو للحركة القومية، فأرسل في ١٧ يوليه إلى سيمور يقول: «لي الشرف أن أعلن لحضرتكم أن عرابي يشتغل الآن بإعداد وسائل الدفاع، وذلك مخافة لأوامر الجناب الخديوي، وقد صدر له الأمر بالكف عن هذه التجهيزات، فكونوا إذن على علم بأن الجناب الخديوي عزم على عزله من وظيفته فهو لذلك وحده المسئول عما يحدث، فأرجوكم أن تعلنوا مآل هذه الرسالة إلى حكومة جلالة الملكة». وأرسل توفيق إلى عرابي بكفر الدوار يدعوه إلى الإسكندرية، ومن عجيب أمر توفيق الذي وافق بالأمس على أن ترد الحصون على السفن إذا ضربت المدينة، أنه يقول في رسالته هذه إن ضرب المدينة «إنما كان السبب فيه استمرار الأعمال التي كانت جارية بالطوابي، وتركيب المدافع التي كلما كان يصير الاستفهام عنها كان يصير إخفاؤها وإنكارها». وكانت دعوة عرابي إلى الإسكندرية خدعة للقبض عليه. أرسل كارتريت في ١٥ يوليه إلى حكومته برقية جاء فيها: «أبرق عرابي باشا هذا الصباح من كفر الدوار إلى الخديو يقول إنه سوف يسر سموه أن يعلم أن الرديف قادمون؛ ليعينوه في محاربة الإنجليز وأجاب الخديو بدعوته إلى هنا. إذا حضر فسيقبض عليه وإذا رفض فسيعلن عصيانه وخروجه على القانون». ورد عرابي على توفيق يقول إن البلاد في حالة حرب مع إنجلترة، وأنه إذا جلا الإنجليز عن الإسكندرية فإنه لا يتردد عن الحضور، وإلا فواجب الحكومة أن تأخذ الأهبة لصدهم عن البلاد. وفطن عرابي إلى أن توفيقًا سوف يصدر قرارات ضده تذيع الانقسام في البلاد، فبادر هو بإحباط ذلك قبل وقوعه، فأرسل إلى جميع المديريات والمحافظات يعلن للناس فيها انضمام الخديو إلى الإنجليز، ويحذرهم من اتباع أوامره ويدعوهم إلى الاستعداد وجمع ما يلزم للقتال، وكذلك أرسل يحذر من راغب قائلًا: «إن ما يأتي من رئيس الوزراء من البرقيات بطلب الكف عن الاستعداد، إنما هو مجبر عليه فلا طاعة له». وأرسل رسالة خطيرة في ١٧ يوليو إلى يعقوب سامي باشا وكيل وزارة الجهادية بالقاهرة، يعلن إليه فيها خيانة الخديو، وأنه سبب ما نزل بها من الكوارث ويدعوه إلى عقد جمعية من الكبراء والعلماء للنظر في الأمر، وإصدار قرار بشأن الخديو وفيما يجب عمله لصالح الأمة وتقرير مدى «صلاحية هذا الوالي عليها». وقد اهتم الإنجليز بأنباء هذه الاتصالات وغاظهم أن يسبقهم عرابي إلى ما أرادوا أن يحاربوه به، وأبرق كارتريت في ٢١ يوليو إلى حكومته يقص عليها ذلك، فجاءته برقية في نفس اليوم هذا نصها: «بالنظر إلى لهجة عرابي باشا في بلاغاته التي ذكرتها لي في برقيتك اليوم رأيت أن أوجهك بشدة إلى أن تؤثر على الخديو بضرورة إصدار بلاغات مضادة من جانبه إلى الشعب المصري، وأن تخبر سموه بأن حكومة جلالة الملكة تعد العدة لإرسال قوة كبيرة إلى البحر الأبيض المتوسط». وقد جمع يعقوب سامي عند وصول برقية عرابي عددًا من أنصاره وكان من المتحمسين لعرابي، فاستقر رأيهم على دعوة مجلس من وكلاء الوزارات، وبعض كبار الضباط وكبار الموظفين، وقد انعقد هذا المجلس وعرف باسم المجلس العرفي، وسيبقى يدير شؤون الحرب والإدارة طول مدة القتال. وقرر المجلس العرفي في نفس اليوم دعوة جمعية عمومية. وقد انعقدت هذه الجمعية في المساء في وزارة الداخلية، وشهد هذا الاجتماع الخطير نحو أربعة مئة كان بينهم الأمراء الموجودون بالقاهرة ورؤساء الأديان، وفي مقدمتهم الشيخ الإنبابي شيخ الإسلام، ثم كبار العلماء وقاضي قضاة مصر ومفتي الديار المصرية والنواب، ووكلاء الوزارات والقضاة وكبار الأعيان والتجار. وقد اتخذت الجمعية بعد التشاور في الأمر قرارًا خطيرًا يدل على قوة روح الأمة، وعلى أن نهضتها حقيقية. ومؤداه أن تعد الأمة العدة للقتال ما دامت سفن الإنجليز في الشواطئ المصرية وجنودهم في الإسكندرية، كما قررت استدعاء الوزراء إلى القاهرة، وأوفدت لجنة من أعضائها للسفر إلى الإسكندرية لإبلاغ الوزراء قرار الجمعية. ولما بلغ توفيقًا هذا القرار أصدر أمره بعزل عرابي من وزارة الجهادية، وعده وحده مسئولًا عما يحدث لإصراره على الاستعداد للحرب، ورفضه الحضور إلى الإسكندرية. ولم يكتف توفيق بذلك بل إنه مع الأسف الشديد كان قد أرسل منذ يومين يستعدي الإنجليز صراحة على بلاده. أبرق كارتريت في ١٩ يوليو إلى حكومته يقول: «أرسل الخديو في طلب سير أوكلند كلڨن صباح اليوم، وطلب إليه أن يستحث حكومة جلالة الملك لتخطو خطوة جديدة بلا إبطاء. ويقول سموه: إنه من ناحية يرى أن هذا العمل ضروري جدًّا وأنه يسر سموه إذا أحيط علمًا بالخطوات التي ينظر فيها، وقد وصف سموه قوة عرابي باشا بأنها الآن بلغت من العظمة حدًّا ينشر الرعب في عقول الوطنيين جميعًا. ومن ناحية أخرى فإن هناك إشاعة مستفيضة بأن إنجلترة سوف يحال بينها وبين خططها بسبب الخلاف بينها وبين الدول، وستكون عاقبة هذا أن يصبح من الصعب على سموه أن يحتفظ بمن يشايعونه متحدين».
لم تحفل الأمة بأمر توفيق القاضي بعزل عرابي، بل لقد زادها ذلك استمساكًا به والتفافًا حوله؛ لأن الناس باتوا لا يطيقون اسم توفيق، بينما كانوا يرون في عرابي المدافع عن كيان البلاد، وأضاف الناس إلى ألقاب عرابي لقبًا جديدًا هو «حامي حمى الديار المصرية»، وهذا ما خاطبته به الجمعية العامة. وفي يوم ٢٢ يوليو عقدت الجمعية جلسة أخرى، وكان اجتماعًا قوميًّا أعظم وأشمل من الاجتماع السابق. فقد كان أشبه بمؤتمر وطني عام شهده نحو خمسة مئة من كبار المصريين وفي مقدمتهم الأمراء ورجال الدين، وقد انضم إلى الجمعية هذه المرة رؤساء العشائر من الأقاليم، فكانت بذلك تمثل الأمة المصرية أصدق تمثيل. وقد تليت في الاجتماع فتوى شرعية من بعض العلماء مؤادها أن الخديو بانحيازه إلى العدو المحارب لبلاده يعد مارقًا عن الدين. ثم تداول المجتمعون في الموقف الحربي، وانتهوا إلى قرار بالغ الخطورة أجمعوا عليه، وذلك هو عدم الاعتراف بعزل عرابي باشا من نظارة الجهادية والبحرية، ووجوب استمراره للدفاع عن البلاد، وكذلك قرر المؤتمر عدم إطاعة أوامر الوزارة. وهذان القراران في الواقع مضافًا إليهما فتوى مروق الخديو من الدين هو بمثابة خلع توفيق من منصبه بإرادة الأمة. وإن في تكوين هذا المؤتمر الوطني على هذه الصورة، وفيما قرره لأبلغ رد على الذين يزعمون أن الثورة العرابية ما كانت إلا فتنة عسكرية لم تؤيدها الأمة، وأي تأييد أعظم من أن تقول الأمة بجميع طوائفها قولها الفاصل في موقف من أعظم مواقف الثورة، موقف الجهاد والذود عن كيان البلاد تحت راية زعيم الثورة أحمد عرابي؟ عين عرابي باشا محمود فهمي رئيسًا لهيئة أركان حرب الجيش المصري، وكان من أكفأ رجال الهندسة الحربية في مصر. تخرج في مدرسة المهندسخانة ونبغ في الفنون الهندسية، ثم عين أستاذًا لعلم بناء الاستحكامات في المدارس الحربية، وقد اشترك في حرب البلقان التي نشبت بين تركيا وروسيا سنة ١٨٧٦ واكتسب خبرة عملية. وقد وضع هذا المهندس الكبير خطة حكيمة للدفاع عن مصر كانت كفيلة بأن تصد الإنجليز، وتنقذ مصر من تدبيرهم وسوء مكرهم، لولا عوامل الدس والخيانة. عين فهمي باشا خمسة مواقع رئيسية للدفاع، أولها في كفر الدوار، وثانيها في رشيد وثالثها بين رشيد وبحيرة البرلس، ورابعها في دمياط، وخامسها في الصالحية والتل الكبير، وكان الغرض من الموقع الأخير تحاشي هجوم الإنجليز من الناحية الشرقية لمصر. وقد سد محمود باشا ترعة المحمودية بالقرب من كنج عثمان، ووضع المدافع على السد لحمايته، كما أنه وضع في خطته سد ترعة الإسماعيلية لمنع المياه العذبة عن الإسماعيلية والسويس وبورسعيد عند اللزوم، وسد قناة السويس نفسها لمنع اتخاذها قاعدة عسكرية للإنجليز. ومن الصحائف المشرفة لمصر حقًّا تبرع البلاد لهذه الحرب، فإنه قل أن تجد في تاريخ الحروب حربًا كهذه لم ينفق فيها قرش واحد من خزانة الدولة، بل قامت على ما بذل الشعب المصري طائعًا من أقواته وأمواله لجيشه الباسل. فلقد أخذ مستر كلڨن جميع الأموال من الخزانة، ووضعها لدى الإنجليز في الإسكندرية.
قال عرابي: «جادت الأمة على اختلاف مذاهبها ونحلها بالمال والغلال، والدواب والفاكهة والخضروات، حتى حطب الحريق … وذلك فضلًا عمَّا مدوا به الجيش من الأقمشة والأربطة اللازمة لتضميد جراح العساكر، ومن الأهالي من تبرع بنصف ما يملكه من الغلال والمواشي، ومنهم من خرج عن جميع مقتنياته، ومنهم من عرض أولاده للدفاع عن الوطن لعدم قدرته على الدفاع بنفسه». وقال الشيخ محمد عبده: «هل يقدر أحد أن يشك في كون جهادنا وطنيًّا صرفًا بعد أن آزره رجال من جميع الأجناس والأديان؟ وقد تبرع الأعيان والأمراء والعلماء حتى النساء بالخيل والحبوب والنقود والميرة اللازمة للجيش، وأظهر المديرون والموظفون على اختلاف مراتبهم، والكتبة، غيرة وحمية في جميع الميرة المطلوبة وحشد المتطوعة للجيش ولسائر الأشغال العسكرية، وقد رأيت الناس من فلاحين وبدو ذاهبين إلى الحرب برضاهم واختيارهم متشوقين لمقاتلة الإنجليز، وقد شمل هذا الحماس الأقباط وكان يشجعهم على ذلك رؤساؤهم». وقال نينيه: «كانت ترد كل يوم إلى كفر الدوار إعانات الشعب من المال والقمح والشعير والفول والسمن والخضر والفاكهة والخيل والماشية، وقد أبدى أعيان الوجهين البحري والقبلي شهامة عظيمة في إمداد الجيش». ومع هذه النخوة العظيمة من جانب الأمة درج بعض المؤرخين على أن يصفوا هذه الحركة الوطنية المشرفة، بأنها كانت فتنة عسكرية طائشة جرت إلى احتلال مصر، وعذر هؤلاء المؤرخين — إن صح هذا عذرًا — أنهم كانوا يأخذون عن كتاب الإحتلال.!!!