كتب – محرر الاقباط متحدون
كتب المتروبوليت باسيليوس منصور، مطران عكار في سوريا وتوابعها، رسالة رعوية جديدة بعنوان "الطاعة والقداسة"، جاء فيها :
لا بد وأن نفرِّق من بداية الحديث بين الطاعة التي تأتي غصباً، وبين الطاعة التي يرتضيها الإنسان في حياته لأسباب عديدة.
مثلاً في الحياة العسكريّة غير مسموح الجدل في الأوامر إلا بعد تنفيذها، وهكذا في كل التنظيمات السياسية التي ينتسب إليها بحريته أو لأسباب أخرى. ولكنه بإنتسابه يصبح رأيه من رأي الجماعة لا يمكنه أن يحيد عما تتخذه من قرارات ومواقف، قَبْلَها يمكنه أن يحاور وأن يشكلها مع الجماعة. وتأتي الأوامر من أعلى الى أسفل الهرم الشعبي إلا في حال الثورات.
ولكن الطاعة في الحياة الروحية هي الإلتزام الذي يمكنه للإنسان أن يلقيه عنه ساعة يشاء. أي الإنسان في مسيرته الروحية كلها هو حر، ولا أحد يأخذ منه حريّته. فقط حريته ونجاحه تلزمانه بالطاعة التي لا رجعة عنها.
في الأيام السابقة كانت الطاعة، وإلتزام الجماعة مبدأً حياتياً. جميع الأبناء في طاعة والديهم حتى الشيخوخة المتقدِّمة في السن، لأن الوالدين كانوا طائعين لأبنائهم في الإهتمام والحاجات، ويغدقون عليهم المحبة والحنان. وكذلك كان الوالدون يطيعون الله، ويسمعون لصوت الضمير غير الملوّث والنقي الطاهر. إذاً الطاعة الوالديّة الإختياريّة ولدت إحتراماً وطاعة إختياريين عند الأبناء حتى بعد الكبر، وبلوغ الأبناء مرحلة الرجولة.
كان البيت يصلح ويثبت ولا يتزعزع برغم الضيقات والنوائب، نتساءَل لماذا؟ لأن كلاً من الرجل والمرأة أثناء الزواج كانا يسمعان الكلمة الإلهية، وخاصة في رسالة القديس بولص الى أهل أفسس التي تقرأ أثناء الإكليل: "على المرأة أن تطيع زوجها كما الكنيسة للمسيح.
والرجل يعرف أن من واجبه أن يحب إمرأته كما أحب المسيح الكنيسة وبذل نفسه من أجلها".
تطيع المرأة الكلمة الإلهية، وتخضع كرامة للكلمة الإلهية، وتطبقها في حياتها، وعليها تربي أبناءها لكي تحصل هي على النعمة والرضى الإلهيين والخلاص. هذه الطاعة لا تقتل الشخصيّة بقدر ما تؤدي الى الإنسجام.
نرى في أيامنا هذه حيث تنتفي الطاعة أين وصلت أحوال الناس. ولا ينجو من هذه الكارثة شخص لا إمرأة ولا رجل. لا زوج ولا زوجة، وكذلك الأبناء. فنرى أن الوجوه حزينة غير مشرقة، وبكل تأكيد ليس بسبب حزن التوبة. وبيوتنا تكثر فيها المشاكل وتتهدم، لأن المتكبر هو الذي لا يعرف أن يطيع، ولو قيل للمتكبر أن يقول كلمة إعتذار، أو أن يصعد ثلاث مرّات الى قمة جبل أثوس. لرضي بأن يصعد قمة جبل أثوس على أن يتفوَّه بكلمة إعتذار. ونرى بدورنا كيف تكبر المشاكل بين المتمسكين بآرائهم والمعاندين في مواقفهم.
أيها الإخوة والأبناء الأحباء، لنتمسكن بالطاعة فيما يرضي الله. ولا يقيس كل واحد منا ما يرضي الله على ما يعجبه.
قال أحد الآباء: "إذا لم تقترن الفضائل بالطاعة فكلها لا شيء".
ولو لم تكن الطاعة باباً للفضائل كلها لما عاش ربنا يسوع المسيح على الأرض ليأخذ بيدنا الى مدينة النعم والفضائل الى الفردوس المفقود. صرخ نحو أبيه قائلاً: "لا تكن مشيئتي بل مشيتتك"، في يوحنا 6: "لأني نزلت من السماء لا لأعمل مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني". يتحدّث ربنا يسوع المسيح عن هذه الطاعة لله الآب، والتي حققها بجسده البشري، وبإرادته الإلهية. ويؤكد لنا الرسول بولص أن الطاعة للسيد تؤدي الى القداسة "الآن إجعلوا من ذواتكم عبيداً للبر للوصول الى القداسة.. لقد اعتقتم من الخطيئة واستعبدتم لله فإن لكم ثمركم للقداسة، والعاقبة هي الحياة الأبديّة... إنما تكونون عبيداً لمن تطيعون إما للخطيئة وعاقبتها الموت، أو للطاعة وعاقبتها البر".
أمام هذه الكلمات كان الآباء القديسون حتى ولو بلغوا شأواً كبيراً من القداسة، ودرجة سامية في طريق الملكوت كانوا يطيعون للبر المسؤولين الروحيين عنهم في أديارهم ومناسكهم. وكان زمن لم يكن الناس يفرِّقون بين الحياة الزوجية، وبين الحياة الرهبانية. المهم أنهم يسعون الى القداسة. صنعت الطاعة الكثير من العجائب المرويّة بين الناس، وفي كتب سير القديسين.
فلنسمع أيها الإخوة والأبناء الأحباء لله فيما يريده منا ويدلنا أن نحياه لكي يستسهل الواحد منا طاعة الآخر.
مرّة طلب أحد الأساقفة من كاهن في أبرشية أن يطيعه. فقال له الكاهن أطيعك بقدر ما تطيع الله. نعم مع الطاعة لله يمتلئ الإنسان من نعمة التواضع، ويصبح بالمحبة الدائمة إنساناً متشبهاً بالسيد له المجد يريد خير الآخرين قبل أن يبحث عن أنانيته، لأن من يعيش الطاعة لا يعود صاحب أي هم، وتزيل من أمامه كل الأتعاب، وتقوده نحو التواضع.
جعلنا الله جميعاً في هذه المرتبة الروحيّة، وفي الطريق نحو التي هي أقوم.