في العناوين الأخيرة من فيلم “مش أنا”، أحدث أعمال المغني الممثل تامر حسني إشارة إلى أن “المشكلة” التي يعاني منها بطل الفيلم، والتي تتمثل في أن إحدى يديه أصبحت عنيفة، شريرة، تتصرف بمعزل عن إراداته، هي مرض حقيقي يعاني منه بعض الناس.
المرض حقيقي بالفعل، وهناك ملايين يعانون منه، حتى لو لم يكن يتمثل فقط في وجود يد تتصرف رغما عن صاحبها، ولكن في عقول ونفوس منفصمة، يأكلها التناقض والاضطراب، ولعل ما حدث من اعتراض بطلة الفيلم حلا شيحة على فيديو كليب لأغنية من الفيلم تضم بعض مشاهد تجمعها بتامر حسني، هو أوضح دليل على حالة الفصام التي أتحدث عنها.
فيلم تامر حسني
حلا، أو “حالة” شيحة، ليست حالة استثنائية، وإن كانت أكثر “فجاجة” لأنها إنسانة طيبة، لا تعرف كيف تصقل وتسفسط فصامها كما يفعل آخرون.
حلا ابنة جيل كامل تربى على تعاليم عمرو خالد ومن يطلق عليهم الدعاة الجدد، وصولا إلى معز مسعود، زوج حلا شيحة الأخير، وهي تعاليم تقوم في مجملها على محاولة التوفيق بين التدين والحداثة، الإتباع والإبداع، اللحية والتي شيرت، النقاب والبوركيني.
ومن الظريف أن فيلم “مش أنا”، مثل كثير من الأفلام المصرية الحديثة، هو محاولة للتعبير عن الصراع النفسي العنيف الدائر بسبب عدم القدرة على التوفيق بين هذه التناقضات.
أحداث الفيلم
تامر حسني، أو حسن، فنان تشكيلي شاب يعيش مع أمه (سوسن بدر) المريضة، والتي تحتاج إلى علاج، لكنهما فقيران جدا، وحسن يضطر إلى الاقتراض من عمه (ماجد الكدواني) صاحب الـ”كوافير”، مبلغا زهيدا هو كل ما يملكه العم، ثم يذهب لبيع لوحاته وحتى ملابسه لكي يوفر ثمن الأدوية. عند هذه النقطة يتشاجر حسن مع بعض الصعاليك في الشارع ويوسعونه ضربا، ويعود للمنزل مصابا بكدمات خفيفة، لكنه يستيقظ في اليوم الصباح التالي وقد وجد أن يده اليسرى تتصرف بمعزل عن إرادته، بل إنها تواصل ضربه وصفعه، ثم تبدأ في صفع الآخرين والاعتداء على الناس، حتى عمه وأمه وحبيبته التي تعجب به عندما تقوم يده المنشقة بالاعتداء على مديرها الذي حاول التحرش بها.
يسأل حسن يده عما تريده ويجيب عنها: “عايزاني أبقى شمال؟”. ومفهوم حسن عن “الشمال” هو أن يذهب لاحتساء الخمر مع بعض شباب المنطقة. وعندما يفعل ذلك يوبخه عمه وأمه ولا يكررها، ولكن تظل يده تتصرف بمفردها
تعبير “الشمال” هو مصطلح جديد في اللغة العامية المصرية انتشر واكتسب معان جديدة. وهو يمكن أن يصف إنسانا أو سلوكا أو أفكارا، وتقريبا كل ما يعتبر مخالفا للأخلاق، خاصة الجنسية.
مفهوم الشمال هذا نابع من ثقافة تتعامل مع اليد والقدم اليسرى كما لو كانتا ملك للشيطان: “لا تدخل بقدمك اليسرى”، “لا تأكل بيدك اليسرى”، إلى آخره. هناك مرض نفسي ينشأ لدى كثير من الأطفال في علاقتهم باليد اليسرى بسبب اعتقادهم أنها “دخيلة” و”شريرة” ولا يجب استخدامها. وهذا المرض موجود بدرجات لدى الكبار من ضحايا هذه التعاليم الـ”دينية”.
لكن السؤال: لماذا اختار رجال الدين والدعاة هذه الأقوال القديمة المشكوك في صحتها، وركزوا عليها؟
أعتقد أنه نوع من الاسقاط أو”موضعة” projection الشر، غالبا ما يلجأ إليه المتدينون كما يفعل الشخص العصابي حين يقوم باسقاط أفكاره على شيء في الواقع. وكما تفعل السينما حين تسقط مخاوفنا وغرائزنا على الشاشة، كما يفعل فيلم “مش أنا” مثلا.
تنقضات وصراعات
إن حسن يختزل التناقضات والصراعات الهائلة التي تسكنه في شيء مادي يمكن النظر إليه من بعيد، وإنكاره ونفيه وترديد العبارة المصرية الشائعة “مش أنا”، التي يرددها الصغار والكبار لنفي تهمة توجه إليهم أو لإنكار ذنب ارتكبوه، بسبب شيطان وسوس لهم، أو يد “شمال” تتصرف رغما عنهم.
الظريف أيضا أن الفيلم الذي أنتج بتمويل سعودي ويحقق الآن إيرادات كبيرة في السعودية يحتوي على مشهدين في السعودية: في المشهد الأول يعلم حسن أن هناك حالة مرضية مثل حالته لشخص موجود في السعودية، ويذهب بالفعل للقاءه!
في المشهد الثاني يذهب حسن للمشاركة في مسابقة للفن التشكيلي في الرياض بالسعودية ويفوز بالجائزة الكبرى، بعد أن ينجح في تحقيق المصالحة بين يديه اليمنى واليسرى، ويرسم بالاثنتين بدلا من يد واحدة.
هل بدأ المرض في السعودية، وينبغي أن يعالج هناك؟
يبدو المشهدان وكأنهما تلخيص لتاريخ المد الوهابي وتأثيره على مصر منذ السبعينيات وحتى اليوم، ولكن أشك كثيرا أن صناع الفيلم كانوا يفكرون في ذلك.
مشكلة فيلم “مش أنا”، و كثير من الأفلام المصرية، مثل مشكلة حلا شيحة وكثير من زملائها، نابعة من نفس منهج عمرو خالد ومعز مسعود ومعظم دعاة الإخوان المسلمين الجدد: عدم مواجهة المرض أو الاعتراف به، ولكن الالتفاف حوله بأي وسيلة ممكنة، وعقد تصالحات ومساومات مؤقتة وعابرة طوال الوقت حسب كل موقف.
لو تأملت تصريحات حلا شيحة وزوجها وردود تامر حسني وتعليقات المتابعين عليها على “تويتر” ومواقع التواصل الأخرى، يمكن أن ترصد حالة نموذجية من العصاب، ليس من مهام هذا المقال أن يرصدها أو يحللها، ولكنها جديرة بالقراءة على الأقل.. ولعل الأجدر بالتأمل هو ردود الفعل الهائلة على الموضوع، ليس فقط على مواقع التواصل ولكن من قبل وسائل الإعلام سواء الصحف والمواقع أو الفضائيات (المذيع عمرو أديب مثلا خصص له إحدى فقرات برنامجه).