دكتور مهندس/ ماهر عزيز
استشارى الطاقة والبيئة وتغير المناخ
في واحدة من دُرَّاتِه النادرة بمسرحه الفكرى العميق استطاع توفيق الحكيم أن يقدم ببراعته الأدبية الحالة الواقعية للانتقال الحضارى المفتقر لمقوماته، والمغترب عن دعائم إنسانيته وارتقائه، فصور حالة الفلاح الذى تحسنت ظروف حياته فانتقل من البيت المبنى بالطين والروث، الذى ينام على أرضيته الترابية في حضن بقرته وحماره، وترعى فيه الدواب والحيوانات الأليفة والطيور، ويتعايش فيه مع الحشرات بأركان البيت، أقول فانتقل من حياة بدائية تمتزج بالأرض امتزاجاً كاملاً، إلى حياة أخرى يسكن فيها بيتاً من الطوب والخرسانة، والتشطيبات المعمارية الأنيقة، والأثاث الفاخر.. بيتاً يرفل في أسباب النظافة والتحضر والرقى؛ فإذا به يربى الكتاكيت تحت سريره، وتتجول الأرانب في غرفة نومه، وينهق الحمار في بلكونه، ويؤذن الديك فوق دولابه، وتضع الدجاجة بيضها على التليفزيون الموجود في صالونه.
ولقد استطاع الكاتب الكبير أن يطلق رسالته على نحو بليغ، فيكشف عن جوهر الانتقال الحضارى المقصود، ويشجب التغيرات والتنميات الظاهرة بينما الروح بدائية.
ويتكرر ذلك بحذافيره على مستوى مصر بأكملها، مع اتجاه الطموح الوطنى نحو إعلان الجمهورية الثانية للمضى قدماً في التحديث الجذرى للدولة المصرية، تحديثاً يغير وجه الحياة تغييراً جوهرياً تتبدل به الحياة تماماً من أحوال العالم البدائى الكهفى إلى طبائع العالم المتقدم.
لقد بدأت الجمهورية الأولى في حياة المصريين منذ نَيِّف وخمس وستين سنة ثبتت خلالها في مجملها على جوهر واحد للحياة وظواهر أساسية رغم تعاقب ستة رؤساء عليها.
لم يفارق هذا الجوهر الواحد أسس الحياة التي أعطت الغلبة للجهل والخرافة على العلم، والشعوذة والدجل على العقل، والاستعباد والإذلال على الكرامة، واسترقاق المرأة ونخاستها على الحرية، والتمييز العنصرى على المساواة الإنسانية.. بل رفعتها جميعها إلى مقام الدوجما العقيدية التي جمعت كلا من الجهل والخرافة والشعوذة والدجل والاستعباد والإذلال والرق والعنصرية والجور والظلم في ضفيرة مقدسة هائلة تمكنت من الدستور والقانون والتشريع والتطبيق بمرتبة العقيدة التي يعاقب الإله دونها كل من ينحرف عنها.
والإجراء الحالي الذى تمضى فيه الدولة نحو اكتساب ملامح الجمهورية الجديدة لا يتجاوز التحديث المدنى، الذى ينعكس في هياكل البنى الأساسية الجديدة، التي تعيد صياغة الطرق والكبارى والسكك الحديدية، والقوى المحركة، والمصانع، والمزارع، والأمن المائى والغذائى والطاقى، والتحول عن العشوائيات إلى الإسكان الراقى، وتحديث كل شرايين الحياة التي تضخ دماء جديدة في جسد الاقتصاد والمجتمع والبيئة.
والجهد المكثف كله لتثبيت أوتاد الجمهورية الجديدة ينطلق ليبنى ويعمر في كل اتجاه مستهدفاً فقط القبض على الزمن الذى ضاع، والوقت الذى هرب، والأيام التي انصرمت ليستعوضها بقامة شامخة وأمل متجدد وعزيمة لا تلين وحسب..
لكن الروح لاتزال بدائية..
وبدائية الروح التي تكرس الطبائع القديمة كلها تقف بالمرصاد لكل تحديث ظاهرى، لترده على الفور في جوهره إلى العصور البدائية، وتقضى قضاء مبرماً على أحلام الجمهورية الجديدة..
بل حتى مظاهر التحديث الحضارى العصرى لا تأتى مكتملة أبداً في أي موقع وأى مكان، لوقوعها في أسر الروح البدائية أصلاً وجوهراً..
• فالتوكتوك والميكروباصات التي تستهزئ بقواعد المرور تجرى وتمرح في الشوارع الحديثة..
• والعربات الفارهة تكسر قواعد القانون تحت حماية التغاضى عن تطبيقه في المواقف الحرجة.. والذين يقتلون الأبرياء في الشوارع يفلتون من العقاب..
• ومهما تعبدت الطرق فإن أحجاراً مخلوعة من الطوار توجد ملقاة على جوانب الطريق دون كلل ولا ملل البتة..
• والزبالة كعهدها الأبدى ترفل مبعثرة فى أي مكان وكل مكان..
• والدولاب الحكومى مشلول بالبيروقراطية المحصنة بعفن العقيدة الإدارية الفاسدة التي ما فتئت تخرب كل اقتراب من أي نجاح محتمل أو ممكن..
• ومهما وُضِع من قواعد لتنظيم الحياة في أي مجال هنالك إصرار باطنى عميق لدى الناس جميعاً على السخرية منها والتنكيل بالالتزام بها بتلذذ تخلفى عجيب..
• والقفز على القانون وتخريبه متجذر في الروح البدائية للجميع كأنه مجد الحياة المستهزئة أبداً بالإدارة والقانون وقواعد الدولة..
ذلك لأنه لا يوجد "قانون" واحد دون استثناء، ولا توجد "إدارة" واحدة دون محاباة، ولا توجد "قواعد دولة" واحدة دون خرق وتمزيق..
• والعدل في المحاكم مشلول بالعنصرية المقدسة التي ينذهل البشر لأحوالها الضنينة النادرة بالحكم العادل كأنه من الخوارق التي لم يعتدها الناس..
• ومحاصرة الكثيرين من الشجعان الساعين للكرامة والإنسانية وإحباطهم وإخماد شعلتهم تنتشر على قدم وساق لمجرد الظن المتربص بأمان الدولة تجنياً وافتراءً في غالب الأحوال..
• والأبواق الناعقة المحرضة للناس على النجاسة والاستباحة والتحرش وخيانة الوطن والتربص به يُفْسَحُ المجال أمامها لترتع دون حساب..
• وتحاط المناهج المنحطة في التعليم بالقداسة والورع حتى ليكون مجرد التفكير في الاقتراب منها بالتغيير والتنقية والكرامة جريمة يُفْتَرَس من يتجرأ عليها افتراساً دون رحمة..
• والضمائر التي خربتها الدوجما المقدسة، حتى في الصفوة العليا من المجتمع، لا تجد غضاضة البتَّة في قتل الأبرياء – حتى الأطفال منهم – والتجارة بأعضائهم بقلب ميت واستحلال سلفى، وروح رجعية بدائية دونها روح الشياطين..
الحق إن مأزق الجمهورية الجديدة الآن هو أنها لم تتعد مجرد إعلان للحلم الذى لن يمكن أن يتحقق إلا بزلزال ثقافى تعليمى قيمى بنيوى يهز الجذور ليخلعها من أعماقها البعيدة ويطرح مكانها جذوراً جديدة..
إن أول ما يتعين على الجمهورية الجديدة أن تقتلعه اقتلاعاً من الواقع المصرى الراهن هو هذا الدولاب الكابح الذى يعوق التحول..
إن مقومات جوهرية تصنع الجمهورية الجديدة لابد وأن تخترق سريعاً أساسات الأرض الم